عام على تحدي كورونا .. ماذا بعد؟

عام مضى منذ أن بدأ العالم يدافع عن نفسه أمام هجوم فيروس خبيث يسميه علماء الميكروبيولوجي كورونا، ثم أضافوا إليه 19، لأنه من نوع جديد سجل حضوره عام 2019. كان هذا الدفاع في بدايته سلبيا: الزموا منازلكم، وإذا التقيتم عليكم بالتباعد، السلام المعتاد بينكم ممنوع، حتى المصافحة ممنوعة، اغسلوا أيدكم بشكل متكرر، وعليكم بالأقنعة لتحميكم من العدوى التي يمكن أن ينقلها مصاب واحد إلى كثيرين. هذا الدفاع كان بمنزلة فرار الإنسان أمام هجوم الفيروس لأنه لا يستطيع مقارعته. لكن فطرة الإنسان التي من الله عليه بها لا تكتفي بالفرار بل تسعى أيضا إلى المجابهة. الفرار وسيلة سلبية تفيد في الابتعاد عن التهلكة أمام هجوم لا تتوافر الأسلحة اللازمة لمقاومته، والمجابهة تصبح ممكنة عندما تتوافر هذه الأسلحة، والاثنان معا "كر وفر" كما هي معارك الحياة التي خاضها ويخوضها الإنسان عبر الزمن دون توقف.
لا شك أن الفضاء السيبراني أعطى الفرار من كورونا نكهة إيجابية. فإذا كان الفرار عملا سلبيا في جوهره يمكن أن يؤدي إلى عزل الفارين والحد من قدرتهم على التفاعل مع الحياة ومتطلباتها، فإن الفضاء السيبراني مكن هؤلاء من تنفيذ كثير من الأعمال في شتى المجالات، عن بعد، حيث مكن الجميع من التواصل والشراكة، كل من منزله. وشملت هذه المجالات شؤون الإدارة والاجتماعات، والثقافة والإعلام، والتعليم، والبحث العلمي، والخدمات الحكومية، والنشاطات التجارية، ومجالات أخرى كثيرة. وعبر الاستخدام الاضطراري لهذا الفضاء، بشكل غير مسبوق، تراكمت الخبرات، وتعزز التحول الرقمي عمقا في فهم معطياته، واستيعاب فوائده، وموازنتها مع سلبياته، وإدراك أهميته المستقبلية، وتحديد توجهات تطويره، وآفاق استخدامه بعد كورونا.
من أجل مجابهة كوفيد - 19 تسابق العلماء نحو إيجاد السلاح الذي يتمثل في لقاح يحمي الإنسان من الإصابة بهذا الفيروس الخبيث. وخلال العام الذي مضى ظهرت لقاحات عدة في أماكن مختلفة من العالم، وأعطيت التراخيص لهذه اللقاحات في هذه الدولة أو تلك لتأخذ دورها في مجابهة الفيروس. وجاءت هذه التراخيص سريعة، مقارنة بما يماثلها من أمراض أخرى، تحت شعار حالة الطوارئ Emergency، فالتراخيص المعتادة للقاحات الأمراض المختلفة تأتي بعد إجراء تجارب ودراسات على متطوعين على مدى فترات طويلة من الزمن لتحديد كل احتمالات تأثير اللقاح في الإنسان وتأثره به. لكن تراخيص لقاحات كوفيد - 19 جاءت مسرعة بسبب الحالة الصعبة لبيئة الحياة التي استطاع الفيروس الخبيث وضع الإنسان تحت تأثيرها.
لبيان الحالة الصعبة التي عانى العالم وما يزال يعاني أمام كوفيد - 19، لعلنا نعود إلى الإحصائيات الرئيسة المتوافرة بشأنها. تقول هذه الإحصائيات: إن عدد الأشخاص الذين أصيبوا بالفيروس حول العالم تجاوز 116 مليونا، حتى كتابة هذا المقال، أي نحو 1.5 في المائة من عدد سكان العالم البالغ حاليا أكثر من 7.8 مليار نسمة. وأمام هذه الإصابات الكثيرة، كانت هناك إيجابيات تمثلت في شفاء أكثر من 65 مليونا من المصابين، أي: أكثر من 56 في المائة منهم. وكانت هناك أيضا مآس تمثلت في وفاة أكثر من مليونين ونصف المليون من المصابين، أي: أكثر من 2.15 في المائة منهم.
إذا نظرنا إلى ما سبق، على مستوى المملكة، لوجدنا أن عدد المصابين بلغ نحو 379 ألفا، أي: نحو 1.11 في المائة من عدد السكان الذي تجاوز 34 مليون نسمة. وقد تعافى من هؤلاء المصابين 370 ألفا، أي: بنسبة تزيد على 97.6 في المائة منهم. وبلغ عدد الوفيات 6519 من المصابين، أي: بنسبة قدرها 1.72 منهم. وتدل الإحصائيات على مستوى المملكة أن العناية الصحية فيها تتجاوز بفارق واضح تلك على مستوى العالم. ولعل من المناسب التأكيد هنا أن ما سبق من إحصائيات يعكس الأمر الواقع هذا الأسبوع عند كتابة هذا المقال، وأن هذا الواقع خاضع للتغيير المتواصل دون انقطاع.
ونعود إلى لقاحات كوفيد - 19 المعلنة، التي تدعي تحصين متلقيها بالمناعة اللازمة لمنع إصابتهم بالفيروس. فهناك سبعة لقاحات رئيسة حاصلة على تراخيص في عدد من الدول، ولا يدعي أي من هذه اللقاحات أداء يصل إلى 100 في المائة بمعنى التحصين الكامل لجميع المتلقين، بل إن أداء هذه اللقاحات، كما تدعي في تجاربها، يراوح بين 72 و95 في المائة. وتعتمد هذه النتائج على عينات مختلفة تم أخذها في الحسبان في إطار تجريبي محدود في حجم العينة، وفي فترة مراقبة الأثر فيها.
تشمل اللقاحات السبع التالي: لقاح فايزر - بيونتك Pfizer-Biontech، وهو لقاح أمريكي - ألماني، ولقاح مودرنا Moderns، وهو لقاح أمريكي، ولقاح نوفافاكس Novavax، وهو لقاح أمريكي ولقاح جونسون آند جونسون Johnson & Johnson، وهو أمريكي أيضا، ثم لقاح أسترازينيكا AstraZeneca البريطاني، ولقاح سبوتنيك - في Sputnik-V الروسي، ولقاح سينوفارم sinopharm الصيني. وليس لهذه اللقاحات مبدأ علمي واحد في تحصين الإنسان وبناء مناعته تجاه كوفيد - 19، بل إنها ترتبط بمبادئ مختلفة، كما أن لها شروطا مختلفة في التخزين.
لم يستسلم فيروس كوفيد - 19 للقاحات التي وضعها الإنسان لحماية ذاته، بل سعى إلى تطوير نفسه، عبر سلالات جديدة، لا تتأثر باللقاحات الحالية، محاولة اختراق مناعة الإنسان من جديد بمعطيات متجددة. ويواجه العالم اليوم ثلاث سلالات جديدة من الفيروس: سلالة بدأت في بريطانيا، وأخرى ظهرت في جنوب إفريقيا، وثالثة برزت في البرازيل. وهناك أقوال عن سلالات أخرى، واحتمالات بظهور مزيد في المستقبل.
يبدو أن الحياة بعد كوفيد - 19 لن تكون كما كانت قبلها، وأن تحدي هذا الفيروس الخبيث لا يزال مستمرا. إن جميع وسائل الحماية القائمة مطلوبة لتجنب هذا الفيروس الخبيث، وكل الجهود البحثية بشأنه مطلوبة أيضا لمواجهة تحديات السلالات المتجددة منه، وكل الوعي مطلوب من الأفراد لحماية أنفسهم ومن حولهم، وكل التعاون مطلوب من المؤسسات والدول في مواجهة التحديات المتجددة. والشراكة في استخدام الفضاء السيبراني الواعد بمزيد من الكفاءة والفاعلية مطلوبة أيضا ليس فقط الآن، في عصر فيروس كورونا، بل أيضا في المستقبل، عندما يشاء الله له أن يرحل إلى غير رجعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي