يدفعون أكثر من نصف رواتبهم للدولة وهم فرحون

من منا عموما لا يحتج عندما يتم استقطاع جزء من دخله الشهري؟ الناس تحب أن تكسب، وتعطي على مضض، وتتعرض، وقد ترفض إجبارها على التخلي عن جزء من مستحقاتها الأسبوعية أو الشهرية أو السنوية. وهذا مطبق في معظم دول العالم، خاصة القارة الأوروبية ودول أمريكا.
وقد تكون مفردة "الضريبة"، التي تجبر الناس على دفع جزء من أتعاب عرق جبينهم للدولة، بين المفردات التي لا يرغب الناس في سماعها فحسب، بل يجتهدون في التهرب منها إن أمكن.
والتهرب من الضريبة أشكال، منها محاولة البحث عن عمل في موقع أو دولة تقل فيها نسبة الاستقطاعات الضريبية أو لا تستقطع من الدخول شيئا، أو تهريب ما نكسبه من ثروة إلى أماكن نطلق عليها "الملاذات الضريبية".
ويتبارى الأثرياء في البحث عن ملاذ ضريبي، الذي قد يعني أيضا البحث عن استغلال أي ثغرة قانونية لتخفيض الاستقطاع على الدخول والأرباح، وإن كان بتخصيص جزء كبير منها للإحسان والعمل الخيري.
ذكرت الإحسان والعمل الخيري ليس انتقاصا - حاشى. عمل الخير والعطاء من أرقى الفضائل الإنسانية. تخصيص الأموال للأعمال الخيرية - في الأغلب - يتبعه إعفاء ضريبي، وهذا يقع ضمن الأسباب التي تشجع الأثرياء في الغرب على القيام بأعمال خيرية.
والضريبة فرض، بمعنى أننا ندفعها للدولة ونحن مقتنعون. والضريبة أهم ركن في اقتصاد الدولة الحديثة، حيث لنسبها، ارتفاعا أو انخفاضا، شأن كبير في دوران عجلة الاقتصاد.
سأترك شأن الضريبة في الاقتصاد للمستقبل من الأيام، وأركز هنا على حالة قد تبدو غريبة، لا بل فريدة لشعب لا يكترث البتة، لا بل تغمره السعادة، عندما تستقطع الدولة ما قد يصل إلى 60 في المائة من دخله الشهري.
صار لي أكثر من عقدين وأنا أعمل أستاذا جامعيا في السويد، ولم التق سويديا يتذمر من نسب الضرائب المختلفة التي تفرضها الدولة هنا، وهي ربما الأعلى في العالم قاطبة.
والضريبة تصاعدية، بمعنى إن فاق الراتب الشهري 1.6 في المائة من المعدل العام لما يقبضه العاملون من الطبقة الوسطى في المجتمع، تشرع في الارتفاع، وقد تلامس 60 في المائة من الدخل الشهري.
والضريبة على الدخل ليست الضريبة الوحيدة التي على السويديين تقديمها لدولتهم والسعادة تغمر وجوههم. هناك ضريبة القيمة المضافة، وهذه ضريبة عامة، تظهر بأشكال مختلفة، ونسبها مرتفعة، وترافق تقريبا أي قائمة دفع منها التي ترد إلى المنزل، وهي كثيرة ومتشعبة.
السويد رحيمة فقط في الضريبة على الشركات وأرباحها، حيث هي الأدنى ضمن الدول الصناعية الغربية حتى مقارنة بشقيقاتها الاسكندنافية، التي تبلغ 21.4 في المائة.
وهناك حكمة في النسبة المتدنية من الضريبة التي تفرضها السويد على شركاتها. الشركات هنا تسهم بنسب كبيرة تصل إلى نحو 20 في المائة من الدخل في بعض المضامير لتعزيز الضمان الاجتماعي والتأمين والمخصصات التقاعدية.
والجباية الضريبية هي بمنزلة النسخ الصاعد والنازل للاقتصاد في هذا البلد - شأنها شأن عائدات النفط والغاز لدول الخليج العربية - حيث تشكل ما يقرب من الـ60 في المائة من الميزانية السنوية.
إذا كانت الدولة في السويد تجبي ما يصل إلى 60 في المائة من مداخيل مواطنيها ومن ثم تفرض عليهم ضريبة قيمة مضافة مرتفعة جدا، وتشمل نشاطات قد لا تخطر بالبال، فما الداعي الذي يدفع السويديين للتهليل والتصفيق لحكوماتهم المتعاقبة، وهي تشدد من النسب الضريبية التي عليهم دفعها؟
في رأيي الشخصي، تأتي الشفافية في أعلى سلم قائمة الأسباب التي تجعل السويدي يبتسم وهو يدفع كل هذه الضرائب المرتفعة لدولته.
كل مواطن سويدي له الحق ليس فقط الاطلاع على، بل التحقق من ميزانية أي مؤسسة من رئاسة الوزراء حتى بلدية صغيرة تدير شؤون ناحية في أقصى الشمال أو روضة صغيرة في المنطقة التي يقطنها.
والشفافية تعني، ليس هناك بنود سرية فيما تحصل عليه الدولة من واردات، أيا كانت، وما تنفقه، وهذا ينسحب على المداخيل الشخصية أيضا.
وهناك قصص في الصحافة لمشاجرات تقع بين تلامذة المدارس حول مداخيل عائلاتهم، وإن كان أصحاب المداخيل المرتفعة والأملاك الشاسعة - مثلا - يؤدون واجبهم الضريبي بصورة صحيحة.
وهناك دوافع أخرى كثيرة تجعل من الجباية الضريبية نعمة وليست نقمة كما يراها البعض في أماكن أخرى، منها - على سبيل المثال لا الحصر - الخدمات العامة من التطبيب والتعليم والضمان الاجتماعي.
وما يميز ما تقدمه الدولة من خدمة في أي مضمار هو، أنها أرفع شأنا بكثير مما يمكن أن يقدمه القطاع الخاص، ومن هنا يتباهى الناس هنا في التربية والتعليم والصحة والتأمين الاجتماعي، من المهد حتى اللحد، عند تذكيرهم بكثير من الضرائب التي يدفعونها لدولتهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي