بتعديلات دستورية .. واشنطن تودع «الترامبية»
بتعديلات دستورية .. واشنطن تودع «الترامبية»
اهتزت صورة الولايات المتحدة، أمام أنظار العالم، يوم الأربعاء الماضي، بعدما أقدم أنصار الرئيس دونالد ترمب على اقتحام مبنى الكابيتول، أثناء انعقاد اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشيوخ للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، استجابة لما جاء في كلمة الرئيس، الذي يرفض الإقرار بخسارته، إذ لا يفوت أي فرصة دون التذكير بأن الانتخابات مسروقة ومزورة.
لم تثن خسارة ترمب الانتخابات لمصلحة جوزيف بايدن، بأكثر من سبعة ملايين صوت شعبي، و74 عضوا في المجمع الانتخابي، من محاولة قلب نتيجة الانتخابات عبر المجالس التشريعية في الولايات، وحاول لاحقا قلبها عبر القضاء بكل درجاته، وصولا إلى المحكمة العليا بأغلبيتها المحافظة، وهو الذي عين ثلاثة قضاة من أصل تسعة فيها، دون جدوى. والآن حاول قلب النتيجة عبر الكونجرس، بوقف جلسة التصويت والمصادقة، وباء بدوره بالفشل، رغم توقف الجلسة لأكثر من ست ساعات.
ستبقى صورة دخول مثيري الشغب إلى القاعة الكبرى للكابيتول في مبنى الكونجرس، الذي ارتبط في الأذهان بولوج رؤساء أمريكا لإلقاء الخطبة السنوية التقليدية حول الاتحاد، عالقة في الذاكرة الجماعية للأمريكيين، وتحديدا لحظة تصويب ثلاثة من رجال الأمن مسدساتهم نحو نفر من أنصار ترمب يحاولون تحطيم الباب، وكذا عبارة "عائدون" و"اقتلوا الإعلام" في مكتب نانسي بيلوسي، رئيسة البرلمان والهيئة التشريعية الأعلى، وما تحمله من رسائل مشفرة إلى أكثر من جهة.
مثل مشهد سطوة الرعاع على مبنى الكونجرس لحظة نادرة في تاريخ الولايات المتحدة، فكل الأفلام التي أنتجت عن البيت الأبيض وحوله، لم يبدع خيال صناعها بعد مشهدا بدلالات ورمزية ما جرى يوم الأربعاء، حين أذلت جحافل المتظاهرين نواب وشيوخ الولايات المتحدة، ودفعتهم إلى التواري والاختباء، بعدما عمت المبنى حالة من الفوضى والدماء والمواجهات بين المحتجين والشرطة ورجال الحرس الوطني.
أسقطت أحداث الهجوم على مقر الكونجرس كثيرا من الرمزيات، فالمرة الأولى والأخيرة التي اقتحمت فيها المؤسسة تعود إلى عام 1814، وكان الجيش البريطاني حينها هو المهاجم الذي دمر المبنى وأحرقه. أما اليوم، فالمخربون مواطنون أمريكيون، يعتدون على رمز وطني جامع، بحجة الدفاع عن نتائج الانتخابات المسروقة من مرشحهم، ما يثير أكثر من سؤال حول مستقبل الهوية والأمة الأمريكية، خاصة عندما نتذكر أن المحتجين رفعوا أعلام الكونفدراليين، الذين أشعلوا حربا أهلية أمريكية "1861 - 1865" بغرض الانفصال عن الاتحاد، داخل قاعات وأروقة الكونجرس، واحتفائهم بلوحة سياسي كان من أبرز المدافعين عن العبودية.
ما جرى كان وصمة عار في جبين الديمقراطية الأمريكية، جعلتها محل سخرية بين خصومها الذين طالما جرعتهم من الكأس نفسها. فقد بدت أمريكا هذه الأيام، في أمس الحاجة إلى مراجعة شاملة للدروس التي كانت تتطوع لتقدمها إلى بقية دول العالم، من حين إلى آخر، وتحاضر بها على مرأى ومسمع الأمم الأخرى. صحيح أن المسار الذي اتخذته الأحداث كان غير متوقع، إلا أنه يثبت حقيقة أن الولايات المتحدة دولة تحكمها المؤسسات لا الأفراد، وما أقدم عليه ترمب كان بمنزلة اختبار حقيقي للمؤسسات والنظام.
كانت أمريكا يوم الأربعاء مع موعد الحصاد، ما زرعه رئيسها ترمب، على مدى أربعة أعوام، بتواطؤ مع بعض قيادات الحزب الجمهوري، إذ لم يتوقف عن التشكيك في النزال الانتخابي، حتى قبل انطلاق المنافسة. لقد تحولت "الترامبية" إلى حالة، دأب ترمب على تصديرها إلى أتباعه داخل الولايات المتحدة، وكان لها صدى في الأوساط الأمريكية، بقدرته على إقناع الملايين بالانضمام إلى قاعدة داعميه.
أكدت أحداث الكونجرس، أن الكلمة الفصل في أمريكا تبقى للمؤسسات، وليس للأشخاص مهما علا شأنهم، فهي التي تحمي الدولة، لا الحكومة أو الرئيس، لذا لم ولن تدع ترمب أو غيره كي يغير قواعد اللعب ويدمر أركان النظام. الحكاية باختصار شديد، تفيد بأن النظام الذي جعل من ترمب رئيسا للولايات المتحدة، هو ذاته من يقضي اليوم بخروجه من الحياة السياسية، لتظل بذلك القواعد والقوانين فوق الجميع.
كما أظهر بوضوح عراقة الثقافة السياسية داخل الأحزاب الأمريكية، فأغلبية أعضاء الحزب الجمهوري وقفوا في الكونجرس ضد رئيسهم، فهم يعتقدون أنه بات يشكل تهديدا لنظام الحكم، ويشق وحدة الأمة الأمريكية. نعم، انقلبوا ضده بعد أن وقفوا معه في البداية، وساندوه في شكواه وشكوكه في سلامة النتائج، وناصروه عندما قيد نفسه بالطرق القانونية لتحقيق مطالبه، حيث رفع 50 دعوى في المحاكم الفيدرالية وخسرها باستثناء واحدة.
لقد قلبت أحداث الأربعاء الطاولة على ترمب داخل الحزب الجمهوري، إذ خسر في ليلة واحدة كثيرين من حلفائه في الحزب، على رأسهم مايك بنس نائبه، الذي دان بشدة اجتياح الرعاع للمبنى، فيما وصف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن هجوم أنصار ترمب بقوله، "إنه مشهد مقزز ويكسر القلب.. بهذه الطريقة يقع الخلاف على نتائج الانتخابات في جمهوريات الموز، لا في جمهوريتنا الديمقراطية".
امتدت خسائر الرجل إلى ما بعد الحلفاء، فالهجوم على مقر النواب والشيوخ كان بمنزلة الرصاصة الأخيرة على مستقبل ترمب السياسي، فلا حظ له في نيل تأييد من الحزب الجمهوري، الذي لن يضع في قوائم مرشحيه رجلا حشد أنصاره للانقلاب على المؤسسات الشرعية، وتقويض الديمقراطية بالعنف والبلطجة. والغريب أن واقعة الهجوم تمت بالتزامن مع بدء شخصيات جمهورية التحضير لانتخابات 2024، في اجتماع اللجنة الوطنية للحزب في ولاية فلوريدا، المسندة إليها مهمة النظر في قائمة المرشحين التي كان يتصدرها هذا الرجل، بمعدل رضا بين الجمهوريين تجاوز 80 في المائة، لكن هل سيبقى كذلك بعد واقعة الهجوم؟.
كانت الأعوام الثلاثة من رئاسة ترمب ناجحة بكل المقاييس، نقيض العام الأخير الذي فقد فيه البوصلة والتوازن، بعد أن دهمه وباء كورونا في وقت حرج، وكان نقطة ضعفه التي استغلها خصومه بذكاء، فدفعوه إلى ارتكاب أخطاء قاتلة، دنست تقاليد السياسة الأمريكية، وشرّعت الباب على مصراعيه للمساءلة القانونية لترمب عن تحريض الحشود لاقتحام مقر الكونجرس.