Author

دول العالم .. استديروا شرقا

|
أستاذ جامعي ـ السويد

حدثان: واحد أتانا بصيغة تقرير عن مركز غربي رائد للأبحاث، والآخر نحن على أعتابه، قد يغيران وجه الدنيا كما نعرفها. والحدثان فيهما من النصح ما قد يجعل أي حكيم يفكر مليا قبل أن يرفع قدمه للسير خطوة للأمام، ونحن في اليوم الأول من العام الجديد 2021. والحدثان يقولان لنا بصريح العبارة: إنه آن الأوان للاستدارة صوب الشرق بعد قرنين ونيف القرن من الدوران في فلك الغرب.
لقد كانت بريطانيا العظمى يوما لولب الحضارة الغربية، والدنيا تدور في فلكها. خسرت مكانتها بعد الحرب العالمية الثانية، ودخلت أمريكا الحلبة باقتصاد كبير تعززه تكنولوجيا فائقة التطور وسطوة على أسواق المال والعملة لم يشهد لهما العالم مثيلا.
كانت وربما لا تزال أمريكا الدولة الأعظم في العالم. يخطئ من ينسب عظمتها إلى جيوشها الجرارة، لأننا رأينا بأم أعيننا كيف يندحر ويتقهقر هذا الجبروت العسكري أمام مقاتلين من دول يعدها العالم دولا صغيرة وإمكانية بسيطة. هناك اليوم من ينافس أمريكا وقد يبزها في أغلب المضامير التي كانت حكرا عليها ومنها الثورات التكنولوجية الحديثة من الرقمية إلى الذكاء الاصطناعي.
مضمار واحد لا يزال حكرا على أمريكا حتى يومنا هذا ونحن ندشن فيه عام 2021 وهو الاقتصاد، وعلى الخصوص هيمنتها شبه المطلقة على التبادل النقدي والشراء والبيع بين الدول الذي لا يتم غالبا إجراؤه خارج نطاق عملتها الوطنية وهي الدولار.
هذه الميزة هي جوهر القوة التي تملكها أمريكا حيث مكنتها هيمنة الدولار على أسواق العملة العالمية خلال الفترة الماضية مقابل العملات الأخرى. ومن هذا الباب استفادت أمريكا من عملتها الدولار في المنافسة الاقتصادية، وصارت واشنطن تستخدمه بشكل لافت للنظر من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية في الجوانب التنافسية كافة لمواجهة اقتصادات الدول الأخرى واستغلاله سياسيا، ولا سيما في الأربعة أعوام الأخيرة من حكم الإدارة الحالية في البيت الأبيض.
لا أظن هناك من الدول من يخشى الأسلحة والصواريخ الأمريكية، لكن أعتقد أن الدنيا برمتها تخشى قوة ونفوذ الدولار الذي تشهره في وجه من يتحداها اقتصاديا على المستويات كافة من خلال فرض ضغوط مختلفة في مواقع أخرى.
وإلى متى يبقى العالم رهينة هيمنة وقوة الدولار؟
قد لا يصدقني البعض، إلا أنني أظن أننا في طريقنا ونحن ندخل العام الجديد إلى الولوج في عالم ضاق ذرعا من هيمنة الدولار، وأن بصر الدنيا لن يكن موجها صوب الغرب وأمريكا تحديدا بل ستكون هناك نقاط جذب أخرى.
صحيح أننا نركز على ما يقع في الولايات المتحدة والتبادل المتوقع للإدارة في البيت الأبيض، بيد أن كثيرا من المفكرين يركزون اليوم على الصين التي ستحتفي بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني.
في غضون عقود ثلاثة من سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها الحزب، تحولت الصين من دولة كانت في كثير من المضامير في خانة دول العالم الثالث إلى قوة اقتصادية حيوية دونها لن تدور عجلة الاقتصاد العالمي.
وتأتي الذكرى المئوية بعد تقرير لمركز الاقتصاد وأبحاث الأعمال البريطاني "سي إي بي آر"، وهو من أكثر المراكز البحثية رصانة في العالم، يقول فيه: إن الصين لم تعد تحتاج إلى عشرة أعوام كي تتفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة، بل إنها في طريقها إلى تحقيق ذلك في غضون خمسة أعوام.
ما السبب الذي جعل هذا المركز الرصين تقليص مدة انتظار العالم من عشرة إلى خمسة أعوام ليشهد بروز الدولة الجديدة الأعظم في الدنيا بعد الأفول المتوقع لنجم أمريكا؟.
حسب المركز، فإن سياسة الصين الناجعة في احتواء الجائحة وفشل الولايات المتحدة في مواجهتها وما يرافق ذلك من تبعات اقتصادية هو السبب الرئيس الذي جعله أن يمنح الصين خمسة أعوام لتصبح الأعظم اقتصاديا في العالم بدلا من عشرة أعوام.
خمسة أعوام ليست زمنا طويلا من عمر الدول، إلا أنها بالنسبة للصين قد تشكل دهرا من النمو والازدهار، إن أخذنا في الحسبان نسب نموها الاقتصادي في العقود الثلاثة الماضية التي كانت تمس أو تعبر 10 في المائة.
وعليه، لا تستغربوا إن قرأتم في هذا العام، والصين تقيم احتفالات بهيجة بالذكرى المئوية للحزب الشيوعي الحاكم، إن مركزا بحثيا رصينا آخر قال: إن الصين ستملك أكبر اقتصاد في العالم في غضون عامين أو ربما أقل. في الصين، كان الهدف الاحتفاء بالمركز الأول كأكبر اقتصاد في الدنيا في العام الذي يحتفلون به بالذكرى المئوية لتأسيس حزبهم.
لكن ماذا يعني تربع الصين على أكبر اقتصاد في الدنيا؟ إنه يقول لدول وشعوب العالم: "استديروا شرقا".

إنشرها