Author

هل نرضى بالحياة ما قبل الجائحة؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد

بعد عام ونيف العام من تفشي الجائحة في أرجاء المعمورة، يحدونا الأمل أن الأزمة في طريقها إلى الانفراج وأن فيروس كورونا المسبب لها في طريقه إلى أن يدخل سجل الكائنات الدقيقة المخيفة التي لم تصمد أمام عزيمة الإنسان المعاصر لتطويع الطبيعة ودحر الأعداء المتربصين به.
البشر عموما ذاكرتهم قصيرة. ويبدو أننا سننسى وبسرعة الهلع الذي أصابنا والموت الذي أحاط بنا من كل جهة ونحن على وشك رفع شارة النصر على الفيروس.
مثلنا يشبه مثل الدول المتحاربة التي ما إن تضع المعارك أوزارها، وإذا بصاحب الكفة الراجحة يقيم احتفالات باذخة ونصبا عالية لتخليد تفوقه على عدوه، ناسيا أو متناسيا أمواج القتلى والجرحى والدمار الذي ألحقه الصراع بالطرفين.
هذا ما أستشفه وأنا أراقب الردود والانعكاسات التي ترافق توصل شركات الأدوية العالمية إلى أكثر من لقاح لدحر الوباء. كلنا في لهفة للعودة إلى طريقة الحياة ما قبل الجائحة، بيد أننا من النادر أن نسأل أنفسنا عن التبعات التي سترافقنا والآثار الجانبية التي ستتركها الجائحة على مجتمعاتنا.
سنقع في خطأ كبير لو غضضنا الطرف عما كشفته الجائحة من عورات على المستويات كافة من الفردية حتى نظم الحكم. كاد الفيروس يسحقنا وفي بعض المضامير غرس أنيابه فينا تاركا جروحا اندمالها قد يستغرق وقتا طويلا أو ربما لن تندمل ما لم نغير من أنفسنا.
لقد أظهرت الجائحة أننا نعاني نقصا ليس في المناعة ضد الفيروس بل في العدالة الاجتماعية. وكم كان الدرس الذي لقننا إياه الفيروس في محله، حيث كان ولا يزال يضرب في الخصار الرخوة من بنياننا الاجتماعي.
وأكثر خصر رخو يتمثل في نقصان أو بالأحرى فقدان العدالة الاجتماعية إن كان في توزيع الدخل أو في النظرة إلى ما يخالف توجهاتنا من حيث اللون أو الثقافة أو الدين أو الجنس أو الأعمار أو العمالة أو الموطن أو الجنسية أو غيرها. والأوبئة، مثلها مثل الكوارث الطبيعية، تترك آثارا أقسى وأكثر إيلاما حال انكفائها. الآثار الجانبية لموجات المد العاتية تسونامي لعام 2004 التي ضربت دولا مثل إندونيسيا وتايلاند وسريلانكا لا تزال محسوسة حتى اليوم.
عودة الحياة إلى ما قبل الجائحة معناه الركون طواعية إلى الشروخ والعيوب التي كانت تعانيها مجتمعاتنا التي مكنت فيروسا مثل كورونا من استغلالها وإيقاع أفدح الخسائر فينا. والخسائر جمة قد لا تحصى بشريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وصحيا إلى آخره من ميادين حياتنا.
وها هي الدول الأكثر ادعاء للمساواة والرخاء والرفاهية تبرك أنظمتها الصحية أمام الجائحة. ليس هذا فقط، بل أظهرت الجائحة أن الناس ليسوا سواسية في الاستفادة من الخدمات الصحية المجانية. هناك من القوم من يتلقى رعاية وتطبيبا أفضل بكثير من الآخر ليس إلا لكونه من النخبة.
وظهرت إحصائيات تفيد بأن هناك طبقات من المستضعفين، وهم شريحة واسعة، في دول الرخاء مثل السويد، كانوا ولا يزالون الأرض الخصبة لفيروس كورونا من حيث عدد الوفيات والإصابات.
وهناك أبحاث وتقارير تفيد بأن عدم المساواة والفروق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية كانت قد أنهكت كاهل مناطق محددة يقطنها الفقراء أو أصحاب الدخول المتدنية أو أماكن يقطنها أناس من لون معين. كانت هذه الأماكن وهذه الطبقات الاجتماعية منسية تقريبا حتى قدوم الجائحة التي سلطت الأضواء عليها لما أوقعته فيها فتكا وقتلا وإصابة.
ليس مصادفة أن يكون فتك الجائحة فينا غير متساو حتى ضمن نطاق الدولة الواحدة. استأنست الجائحة بالفروق الاجتماعية بيننا، واستغلتها للنمو والانتشار وإيقاع أكبر عدد من القتلى والإصابات.
آخر مقال قرأته عن الإحصائيات الخاصة بالجائحة على مستوى الدول الغربية يتبنى بالدليل القاطع الفرضية التي تقول: كلما زاد الفقر والحرمان في منطقة ما، زاد عدد الوفيات والإصابات.
وإن معدل الذين يتعافون بعد إصابتهم أعلى في المناطق التي يقطنها أصحاب المداخيل العالية من المناطق التي يقطنها الفقراء وأصحاب الدخول المتدنية.
ليس هذا فقط، بل إن أصحاب البشرة البيضاء في المجتمعات متعددة الألوان والثقافات أقل عرضة للموت والإصابة من أصحاب البشرات الأخرى في الدول الغربية. وقس على ذلك وعلى المستويات كافة وفي أغلب دول العالم، حيث للفروق الاجتماعية وقع على تفشي وفتك الجائحة مشابه للمسار في الدول الغربية. ولهذا، إن عدنا إلى الحياة ما قبل الجائحة، فإننا سنعاني كثيرا تبعاتها وآثارها الجانبية وقد نعد الأرض من خلال فروقنا الاجتماعية لمقدم جائحة أخرى أكثر فتكا.

إنشرها