Author

إعداد الميزانية .. معادلات صعبة

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

صدر بيان الميزانية التقديرية لعام 2021 بأرقام قريبة لما تم إعلانه في أيلول (سبتمبر) من قبل وزارة المالية، حيث يقدر إجمالي الإيرادات بمبلغ 849 مليار ريال والنفقات بمقدار 990 مليار ريال مع عجز بمقدار 141 مليار ريال.

كيف يفكر المسؤول عن إدارة ميزانية الدولة؟

إن إعداد الميزانية العامة للدولة عملية شاقة تمر بعدة مراحل، بدءا من تحديد أسقف النفقات للجهات الحكومية ومناقشة الإيرادات والنفقات مع الجهات الحكومية، ومن ثم إعداد المسودة الأولية للميزانية، مرورا باعتماد اللجنة المالية بالديوان الملكي وموافقة مجلس الشؤون الاقتصادية عليها، إلى اعتمادها من قبل مجلس الوزراء وصدور مرسوم ملكي بها.
المرحلة الصعبة في هذه العملية هي من نصيب متخذي القرار في وزارة المالية والديوان الملكي ومجلس الشؤون الاقتصادية، حيث تعرض أمامهم جميع البيانات المتعلقة بعناصر الإيرادات والنفقات وبنودها المتعددة، وعليهم اتخاذ أفضل ما يستطيعون أن يصلوا إليه من قرارات تلبي متطلبات التنمية والاستدامة المالية والاستقرار الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يجب أن تتماشى مع الإيرادات المتوقعة للعام المقبل.
هذه المعادلة ليست سهلة أبدا، ولا سيما أنه في معظم ميزانيات المملكة السابقة يتم اعتماد نفقات أعلى من الإيرادات المتوقعة، وبنهاية العام ينفق فعليا أعلى من المعتمد، وبالتالي هناك ضغوط على متخذ القرار باستيعاب النفقات على الرغم من ضخامة أرقامها.

كيف يمكن تحقيق إيرادات كافية؟

في النصف الأول من الأعوام العشرة الماضية كانت إيرادات الميزانية عالية بسبب النمو الكبير في الاقتصاد العالمي وما نتج عنه من استهلاك عال للنفط، أدى إلى ارتفاع أسعار النفط وتشبع ميزانيات الدول المصدرة للنفط، إلا أن ذلك الأداء الإيجابي بدأ يتغير منذ عام 2015 حين أخذت أسعار النفط في النزول.
الحل الذي كان معروفا منذ أعوام طويلة للحد من تذبذب إيرادات الميزانية يتمثل في التقليل من الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل والبحث عن بدائل ومكملات أخرى، إلا أن ذلك لم يكن سهل التطبيق، حيث مرت علينا أعوام كثيرة كانت فيها إيرادات النفط تشكل 90 في المائة أو أكثر من إيرادات الميزانية. أما الآن ومن خلال ما تم من جهود في برامج تحقيق رؤية المملكة 2030 أصبحت إيرادات النفط تمثل أقل من 55 في المائة من إجمالي الإيرادات في الميزانية، ومتوقع أن تنخفض أكثر في الأعوام المقبلة، ليس فقط بسبب أي انخفاض محتمل لأسعار البترول، بل لارتفاع حجم الإيرادات غير النفطية ونسبتها من الإيرادات الإجمالية.

إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الضرائب في تعزيز إيرادات الميزانية؟

دون شك، إن الضرائب بمختلف أشكالها وألوانها، من ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية وضرائب السلع الانتقائية، تشكل مصدرا مهما لإيرادات الميزانية، ولكن في نهاية الأمر هذه الضرائب لها ضريبة (إن صح التعبير)، وذلك أمر يعيه متخذ القرار بشكل جديد، حيث لا يمكن الاستمرار بفرض ضرائب دون حدوث تأثيرات في المناشط الاقتصادية المستهدفة بالضريبة بشكل خاص وبالاقتصاد بشكل عام، لذا في الأغلب هي تعمل بحذر وعند الحاجة، بل إن هناك حدا أقصى لما يمكن تحصيله من ضرائب في أي دولة!
فيما يلي نقوم بمحاولة وضع حد أعلى لمقدار المبالغ التي يمكن جمعها من هذه الضرائب، وذلك بالنظر إلى حجم الناتج المحلي الإجمالي ونفترض أننا نستطيع فرض ضريبة معينة على الاقتصاد ككل، ومن ثم نقوم بحساب المبلغ الأقصى الذي يمكن تحقيقه. مثلا نحن نعرف أن الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية لعام 2020، المتأثر بدواعي فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط، ربما يكون بحدود 2.5 تريليون ريال. ولتبسيط الفكرة وما يلي من استنتاج نفرض أن 50 في المائة من الناتج المحلي خاضع للضريبة، وهذا معقول إلى حد كبير إذا علمنا أن بعض مكونات الناتج المحلي غير خاضعة للضريبة كليا أو جزئيا، كون نحو 25 في المائة من الناتج المحلي عبارة عن مصروفات حكومية ونحو 35 في المائة صادرات غير خاضعة للضريبة.

إذن كم يبلغ الحد الأقصى الممكن للإيرادات المتحققة من الضرائب؟

تتميز المملكة عن كثير من الدول بعدم وجود ضرائب على الدخل الشخصي، فتأتي معظم إيرادات الضرائب من ضريبة القيمة المضافة بشكل خاص وضرائب أخرى على سلع وخدمات منتقاة ورسوم جمركية وزكاة من شركات ومؤسسات، ولنفرض جدلا أن متوسط نسبة الضريبة المستقطعة 20 في المائة من السعر النهائي. إذن 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي تساوي نحو 1.25 تريليون ريال، فيكون أقصى مبلغ للإيرادات 250 مليار ريال: 1.25 تريليون ريال مضروبا 20 في المائة يساوي 250 مليار ريال فقط، علما إنه حاليا الضرائب المعتمدة في ميزانية 2020 تبلغ 200 مليار ريال.
هذا التحليل السريع يشير إلى أن الضرائب وسيلة اتخذتها المملكة لدعم الإيرادات غير النفطية وليست الوسيلة الوحيدة لدعم لإيرادات الدولة، وبالتالي لن يتم الاعتماد على الضرائب بشكل كبير ومستمر في تمويل نفقات الميزانية، بل هناك جهود ومبادرات وبرامج الهدف منها تحقيق الإيرادات غير النفطية من مصادر حيوية متعددة.

النفقات المغطاة بإيرادات غير نفطية

لو نظرنا إلى إجمالي النفقات المقدرة لعام 2021 البالغة 990 مليار ريال، نجد أن الإيرادات غير النفطية، التي تشمل الضرائب، قد بدأت تغطي نسبة معتبرة من هذه النفقات في الأعوام الأخيرة، حيث رأينا بنهاية عام 2019 أنها لامست نسبة 30 في المائة من النفقات. وكما ذكرنا فإن النفقات المعتمدة في الميزانية دائما مرتفعة، حتى إن نتج عن ذلك عجز كبير في الميزانية، وهذا ما نراه في عام 2020، حيث كان العجز المعتمد 187 مليار ريال، والآن بنهاية العام سيكون نحو 298 مليار ريال. لذا فإذا كانت نسبة تغطية النفقات من إيرادات غير نفطية تصل الآن إلى 30 في المائة فإن هذا تطور كبير ومهم.

واقع الديون المحلية والخارجية

اللجوء إلى الاقتراض لسد عجز الموازنة من خلال إصدار صكوك وسندات هو أحد الحلول التي اتخذتها وزارة المالية، وتم بالفعل تفعيل هذا الخيار بإصدار صكوك محلية وسندات خارجية، حيث من المتوقع أن يصل الدين العام الإجمالي بنهاية 2020 إلى نحو 850 مليارا، والمستهدف في ميزانية 2021 رصيد دين إجمالي بمقدار 937 مليار ريال. هذا يعني أنه من المتوقع الحصول على تمويلات داخلية وخارجية بحدود 87 مليار ريال في العام الجديد، علما بأن مبلغ الدين الداخلي أعلى بقليل من الدين الخارجي.

إصدار الصكوك والسندات وسيلة تمارسها جميع الدول

الاقتراض ليس هدفا في حد ذاته ولكنه يمارس من قبل كثير من الدول، ولكن هناك حالات تكون الخيارات المتاحة أمام وزارة المالية محدودة، ويكون الاقتراض مباشرة من المصارف أو من خلال صكوك وسندات هو الحل الأفضل. والجدير بالذكر أن نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي تعد المقياس الأساس في معرفة حجم ديون الدولة، ونجد أن المملكة تستهدف بنهاية 2021 عدم ارتفاع نسبة الدين العام عن ثلث الناتج المحلي الإجمالي، علما إن معظم الدول حول العالم، بما في ذلك دول مجموعة العشرين، تصل فيها نسبة الدين العام إلى ما فوق 100 في المائة في بعضها وفي الأغلب لا تقل النسبة عن 60 أو 70 في المائة.

وكما ذكرنا كان المقدر لعجز ميزانية 2020 مبلغ 187 مليار ريال، ولكن بسبب أحداث 2020 وضرورة مواجهة فيروس كورونا ودعم المنشآت الاقتصادية وهبوط أسعار النفط وغيرها من أحداث، أدى بنهاية الأمر إلى بلوغ العجز 298 مليارا، فكيف يمكن تمويل هذا العجز؟

طيلة عام 2020 كانت وزارة المالية تقوم بمراقبة لصيقة لوضع العجز وطرق تمويله، وبالفعل تم في الأرباع الثلاثة من 2020 أخذ ديون داخلية بمقدار 162 مليار ريال، وديون خارجية بمقدار 45 مليار ريال، واستخدم جزء من هذه التمويلات لسداد العجز، كما تم كذلك سحب مبلغ 49 مليار ريال من الاحتياطيات الحكومية لدى مؤسسة النقد لسد العجز، إلى مبلغ قليل تم سحبه من الحساب الجاري.
وبغياب أي بيانات أخرى عما إذا كان هناك أي سحب آخر من الاحتياطيات في الربع الرابع، يبدو أن الاحتياطي الحكومي سينهي عام 2020 برصيد نحو 346 مليار ريال.
ختاما إن إعداد وإقرار الميزانية العامة للدولة عملية صعبة للغاية، يتعارك فيها متخذو القرار بمعادلات صعبة يحاولون من خلالها دعم الجهات الحكومية وتحفيزها لعمل ما يلزم لرفاهية المواطنين ودعم النمو من جهة، ومن جهة أخرى يحاولون بشتى الطرق رفع الإيرادات والعمل على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاستدامة المالية.

 

 

إنشرها