إشكالية «زواج المصالح القهري» في ميانمار
دخلت ميانمار أخيرا أجواء الانتخابات العامة من جديد - ثالث انتخابات تجرى في الشرق الأقصى في ظل جائحة كورونا بعد انتخابات كوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان - في ظل تعقد المسائل في هذا البلد الآسيوي البوذي قليل الحظ. فالانتخابات التي بدأت في ميانمار في الثامن من نوفمبر أسفرت عن فوز ساحق لحزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بقيادة أونج سان سو كي، "وصف بأنه أقوى من فوزه في انتخابات عام 2015 التي جعلت من سان سو كي شريكة في الحكم بعد أن فاز حزبها آنذاك بـ 255 من أصل 330 مقعدا في مجلس النواب، و125 من أصل 168 مقعدا في مجلس الشيوخ" مقابل فشل ذريع لحزب التضامن والتنمية المدعوم من العسكر الجاثمين على رقاب الشعب منذ إطاحتهم بالنظام الديمقراطي الوليد بقيادة رئيس الحكومة الأسبق أونو عام 1963. غير أن فوز هذا العام الساحق الذي تحقق بفضل مشاركة 80 في المائة ممن يحق لهم الاقتراع، لا يعني استلام المنتصر للسلطة في رانجون بمفرده. ذلك أن العسكر - مهما كانت نتيجة الانتخابات - سيظلون القوة المهيمنة على مقادير البلاد بموجب الدستور الذي وضعوا بنوده، وتوخوا فيه أن يكون لهم الحق في تعيين ربع النواب في الهيئات التشريعية والمجالس الإقليمية، قبل أن يجيزوه بعد استفتاء مزور عام 2008.
لقد جرت مياه كثيرة منذ أن أطلق عسكر ميانمار عام 1990 سراح أونج سان سو كي رمز الديمقراطية من إقامتها الإجبارية تحت ضغوط مورست من قبل الولايات المتحدة وعديد من الدول الأوروبية، وسمحوا لها ولأنصارها بخوض الانتخابات في ذلك العام، وفق شروط صارمة على رأسها ألا تقود الحكومة بنفسها في حال فوزها بحجة تمتعها بالجنسية البريطانية، التي حصلت عليها بعد زواجها من مواطن بريطاني.
ومنذ ذلك التاريخ أيقن الجيش أن اعتقال نشطاء الديمقراطية وقمعهم مثلما حدث على مدى أعوام طويلة لا فائدة منه لجهة إطفاء جذوة المطالبة بالحريات، خصوصا في ظل فشلهم المتكرر في تحقيق نصر انتخابي مؤزر من خلال حزبهم المنبوذ شعبيا حزب التضامن والتنمية، الذي خلف حزب البرنامج الاشتراكي الذي كان الحزب السياسي الوحيد المسموح له بالعمل في البلاد حتى عام 1988.
وبالمثل أيقن أنصار الديمقراطية وزعيمتهم سان سو كي أنه لا مناص من التعاون مع العسكر والقبول بسياساتهم الداخلية والتعايش معهم. وكان من نتائج ما يمكن أن نطلق عليه "زواج المصالح القهري" أن فقدت سان سو كي كثيرا من الاحترام الخارجي لشخصها ودورها لدى الدول الغربية، بل صارت منبوذة هناك، خصوصا بعد تصريحها الصادم عام 2013 في مقابلة مع إذاعة "بي بي سي" حينما قالت: إنها مغرمة بالجيش لأنه جيش والدها - في إشارة إلى دور والدها الجنرال أونج سان في النضال من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى قبل أن يغتال في تموز (يوليو) 1947، أي قبل عام ونصف العام من إعلان استقلال بورما، فضلا عن ذهابها إلى لاهاي للدفاع أمام محكمة العدل الدولية عن السجل الأسود لبلادها فيما يتعلق بالإبادة الجماعية لمسلمي ميانمار من الروهينجيا - أكبر أقلية عرقية بنسبة 4 في المائة من إجمالي السكان البالغ عددهم 50 مليون نسمة.
ولعل أقوى دليل على فقدان العالم الخارجي لثقته بهذه المرأة وتضرر سمعتها كنصيرة للديمقراطية ومدافعة عن حقوق الإنسان، هو أن منظمة العفو الدولية جردتها من جائزة سفيرة الضمير الممنوحة لها عام 2009 حينما كانت خاضعة للإقامة الجبرية، وقيام كندا بتجريدها من جنسيتها الفخرية، وقيام مدن بريطانية مثل جلاسجو وأدنبرة، وأوكسفورد بتجريدها من لقب مواطنة فخرية، فضلا عن قرار متحف المحرقة في واشنطن بسحب جائزة "إيلي فيزل" منها. هذا علاوة على حملة واسعة لإجبار مسؤولي جائزة نوبل على سحب جائزة نوبل للسلام الممنوحة لها عام 1991، واتهام الأمم المتحدة لها بالتواطؤ مع كبار جنرالات الجيش في ارتكاب جرائم إبادة.
لكن في مقابل كل هذا، حظيت سان سو كي، بتأييد الطغمة العسكرية الحاكمة في بلادها لأنها ببساطة دافعت عن حملة التطهير العرقي التي قامت بها ضد الروهينجيا. وطبقا لبعض المراقبين، فإن احتمالات تقاسم السلطة في ميانمار والتعاون المثمر من خلف الكواليس بين الخصوم السابقين الذين صاروا اليوم شركاء في إدارة البلاد ربما يكون الآن أسهل من ذي قبل، الأمر الذي يجنب البلاد الدخول في متاهات قد تؤدي إلى أعمال عنف وحرب أهلية، لكن رغم هذه الاحتمالات، فإن قائد الجيش مين أونج هلاينج، استبق الأمور حينما شدد أخيرا على أن أي أعمال عنف أو تمرد سيقاومها الجيش بموجب ما يتمتع به من سلطات واسطة طبقا للدستور، فضلا عن أن الجيش وحده هو الذي ينصب ثلاثة من أقوى وزراء الحكومة وهم وزراء الدفاع والشؤون الداخلية وشؤون الحدود.