وقفة مع مصطلحات في الهندسة البشرية

ماذا نقصد عندما نقول هندسة Engineering؟ لعلنا في هذا الأمر نبحث عن هذا المقصود في موسوعة ماكجرو - هيل McGraw-Hill للعلوم والتقنية. تقول الموسوعة: "إن الهندسة ببساطة هي فن توجيه مصادر الطبيعة للاستخدام بما يلائم راحة البشر". وتضيف الموسوعة إلى ذلك أن عناصر الهندسة تتمثل في البشر، والمادة، والمال، والآلات، والطاقة، وربما يمكن إضافة المعلومات أيضا. وتبين الموسوعة أن الهندسة تختلف عن العلوم Science، لكنها تتكامل معها. فإذا كانت العلوم تسعى إلى اكتشاف كنوز الطبيعة بأشكالها المختلفة وموضوعاتها المتعددة، وتهتم أيضا بوضع القوانين والنظريات المرتبطة بها، فإن الهندسة علم تطبيقي يعنى باستخدام هذه الكنوز بطرق مبتكرة ومتجددة تحقق للبشر أقصى ما يمكن من الفوائد، بأقل ما يمكن من التكاليف.
استنادا إلى ما تقدم نجد أن الهندسة في إطارها العام تنظر إلى الحياة نظرة عملية تطبيقية تشمل جوانبها كافة، بما يشمل: الجوانب العلمية المختلفة، والبشرية بما فيها من عوامل رئيسة - اقتصادية واجتماعية وإنسانية. وعندما تختلف التخصصات الهندسية، فإنها تختلف في الموضوع العلمي المحوري الذي تطرحه، لكنها لا تختلف من حيث وجود جوانب بشرية اقتصادية واجتماعية وإنسانية.
يود هذا المقال أن يتوقف عند مصطلحين مهمين يرتبطان بما يمكن أن ندعوه بالهندسة البشرية. وتختلف هذه الهندسة عن سائر التخصصات الهندسية الأخرى، في أن موضوعها العلمي المحوري المطروح يركز على البشر، إضافة بالطبع إلى ما يرتبط بهذا الموضوع من جوانب أخرى تؤثر فيه وتتأثر به. وقد ظهر هذان المصطلحان في أوروبا، خلال القرن الـ 19 للميلاد، وهما ينتشران حاليا على نطاق واسع. أول هذين المصطلحين هو إرجو-نومكس Ergonomics، ويترجم عادة إلى العربية بتعبير: هندسة المتطلبات البشرية، والمصطلح الثاني هو الهندسة الاجتماعية Social Engineering الذي بات يلقى اهتماما خاصا في عصر الفضاء السيبراني Cyberspace. وسنلقي الضوء فيما يلي على كل من هذين المصطلحين، تمهيدا لبيان ما يمكن أن يربط بينهما ضمن إطار الهندسة البشرية.
ترتبط جذور مصطلح "إرجو-نومكس Ergonomics باللغة الإغريقية، حيث يتكون من جزأين. الجزء الأول منه هو إرجو ergo، ويعني العمل، أما الجزء الثاني فهو نوموس Nomos، ويعني قوانين الطبيعة. أي: إن المصطلح يربط ما بين العمل، أي عمل الإنسان وسعيه إلى حياة أفضل من جهة وقوانين الطبيعة التي يصل إليها عبر البحث والاكتشاف من جهة أخرى. وقد طرح هذا المصطلح العالم البولندي وجيش جاستربوفسكي Wojciech Jarzembowski عام 1857، في كتاب يحمل آراءه حول العمل واكتشاف الطبيعة. ولم ينتشر هذا المصطلح عالميا إلا بعد أن ترجم الكتاب إلى الإنجليزية عام 1997، أي: بعد ظهوره بأعوام طويلة. ويستخدم المصطلح الآن على نطاق واسع حاملا معاني ترتبط بمتطلبات الإنسان نطرحها فيما يلي.
تضع قواميس اللغة تعريفات للمعنى المتداول حاليا لمصطلح "إرجو-نومكس Ergonomics". فقاموس كامبريدج Cambridge يقول في تعريف هذا المصطلح: "إنه معني بدراسة البشر والبيئة التي يعملون فيها من أجل تحسين كفاءة هذه البيئة". ونتيجة لهذا التعريف نجد من يطلق على هذا المصطلح تعبير بيئة العمل Work Environment. ويعطي قاموس مريم - وبستر Merrium - Webster تعريفا آخر يقول: "إنه علم تطبيقي يهتم بتصميم وتنظيم الأشياء التي يستخدمها البشر، حيث يتمتع تواصل الإنسان مع هذه الأشياء بالكفاءة والأمان". ويقترح هذا القاموس ثلاثة تعابير لوصف هذا المصطلح هي: التقنية الحيوية Biotechnology، والهندسة البشرية Human Engineering، والعوامل البشرية Human Factors، ولعلنا نقترح تعبيرا آخر لهذا المصطلح يسعى إلى جمع صفاته، هو هندسة التوافق بين البشر والأشياء.
ونأتي الآن إلى المصطلح الثاني وهو الهندسة الاجتماعية Social Engineering، ففي عام 1894 للميلاد، طرح المهندس الهولندي جي سي فان ماركن Van Marken J. C فكرة الحاجة إلى المهندس الاجتماعي إلى جانب المهندس التقني كي يتم أخذ العوامل البشرية بالشكل المأمول الذي يحتاج إليه الإنسان. ولعل هذه الفكرة جاءت بسبب عدم قدرة أو عدم حصول المهندس المختص بالتقنية على تأهيل يمكنه من استيعاب المتطلبات البشرية، وبالتالي أخذها في الحسبان في عمله. وقد وصلت هذه الفكرة إلى الولايات المتحدة، عام 1899، حيث ظهرت مجلة حملت اسم الهندسة الاجتماعية. ثم انتقلت الفكرة إلى فرنسا، لتنتشر بعد ذلك في مختلف أنحاء العالم.
أخذ معنى الهندسة الاجتماعية منحى آخر في مجال الأمن، فقد أصبح المعنى المتداول له كالتالي: إنه إيجاد الوسائل التي تستغل معلومات حول الإنسان أو هفوات أو أخطاء يقوم بها من أجل اقتناص معلومات خاصة، أو النفاذ إلى أبنية أو وحدات خاصة، والقيام بأعمال غير مشروعة. وفي مجال الفضاء السيبراني Cyberspace، فمفهوم الهندسة الاجتماعية: "حيل غايتها قرصنة يقوم بها البعض لاقتناص معلومات، أو نشر برامج خبيثة، أو اختراق أنظمة معلوماتية خاصة". وهكذا فإن المفهوم السائد للهندسة الاجتماعية هو مفهوم سلبي على عكس ما كان عليه عند ظهوره. لكن أي مفهوم سلبي يمكن أن يقاوم بمفهوم إيجابي يعيق عمله ويوقف تأثيره. وعلى ذلك فإن فهم وسائل الهندسة الاجتماعية المستخدمة للقيام بعمل سلبي ضرورة لإيجاد وسائل تسعى إلى مجابهتها وإحباط سيئاتها. ولعل بالإمكان النظر إلى الهندسة الاجتماعية من طرفين: طرف التحدي في جانب، وطرف مواجهة التحدي في الجانب الآخر.
وهكذا يكون هذا المقال قد أعطى فكرة عن مصطلحين مهمين في موضوع الهندسة البشرية يستخدمان في اكتشاف بعض الخصائص البشرية، من أجل الاستفادة منها في تحقيق أهداف محددة. ويكمن الجانب الهندسي هنا في مدى القدرة على استنباط الفائدة المرجوة من اكتشاف هذه الخصائص والوصول إلى الأهداف المنشودة. وقد وجدنا أن في هذه الهندسة توجهات نحو الخير وأخرى نحو الشر، ولا شك أن النوايا والأخلاق هي دائما الحكم في تحديد التوجهات. ولعلنا نختم بالقول: إن للهندسة البشرية مع هذين المصطلحين وغيرهما شؤونا وشجونا سنعود إليها في مقالات مقبلة بمشيئة الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي