Author

ثورة المنصات الرقمية «1من 2»

|

أستاذ الطاقة الكهربائية ـ جامعة الملك سعود

[email protected]

لو نظرنا حاليا إلى العلامات التجارية الأعلى قيمة في السوق العالمية سنرى أن جزءا كبيرا منها عبارة عن منصات رقمية Digital Platforms مثل شركة فيسبوك وأمازون وجوجل وأبل ومايكروسوفت ويوتيوب وعلي بابا وتينست وسامسونج وساب وغيرها ممن انتهج سياسة المنصة الرقمية. وتمثل الشركات الخمس الأُوَل المذكورة آنفا منطقة استحواذ واسعة ونموا مطردا ليس في الولايات المتحدة فحسب بل في العالم أجمع. المنصة الرقمية عبارة عن نشاط تجاري ينشئ قيما محددة من خلال تسهيل التفاعلات المباشرة بين نوعين مميزين أو أكثر من العملاء. يقول البروفيسور جيفري باركر، أستاذ كلية الهندسة في دارتموث الأمريكية: "تمثل المنصات الرقمية تحولا أساسيا في كيفية ارتباط الشركات بعضها بعضا، من نماذج الأعمال الخطية (التقليدية) إلى نماذج الأعمال الأكثر ارتباطا بالمنصات الرقمية". وغالبا ما تكون أصول المنصات بسيطة، لكنها تحقق إيرادات وفيرة، وبدلا من بناء القدرات الذاتية والسعي إلى حث العملاء على استخدام منتجاتهم الخاصة، يقوم رواد الأعمال ببناء أنظمة بيئية Ecosystems من خلال دفع العملاء للتفاعل بعضهم مع بعض. إذن تمثل المنصة الرقمية بكل بساطة نوعا مميزا بين العملاء مثل البائع والمشتري وتفاعلا مباشرا بينهما، حيث يكون للطرفين الحرية في إنشاء ملفات التعريف الخاصة بهما وتحديد الأسعار والتفاوض بشأنها وتحديد كيفية تقديم خدماتهما أو منتجاتهما، وهذا ما يميز بين المنصة الرقمية عن قناة المنتجات الخطية "التقليدية". وأخيرا تسهل المنصة الرقمية حجم التفاعل بين العملاء حيث تكون نماذج الأعمال في المنصة بكل سهولة، لكن تضبط بقوانين أو حوكمة منعا لأي استغلال أو سوء تدبير. من الناحية الفنية، تتكون المنصات الرقمية من طبقة أساسية من التقنية، تدعى واجهة أو بيئة لبرمجة التطبيقات Application Programming Interface. وهي تساعد المستخدمين على إنشاء قيم متجددة، بل حتى تبادل تلك القيم مع بعضهم بعضا، وتحتوي أيضا على نماذج حوكمة يشرح ويتحكم في أنواع السلوك المسموح به على المنصة، من أجل إيجاد سلوك جيد ومنع أي سلوك سيئ.
لقد أصبحت المنصات الرقمية ذات أهمية متزايدة للاقتصاد العالمي. إذا نظرنا إلى خريطة الإنترنت في الواقع، سنرى جميع الشركات الكبرى المعروفة مثل "جوجل" و"أمازون" و"فيسبوك" و"أبل" تظهر أعلى القائمة. ولو نظرنا قليلا إلى أكبر خمس شركات أمريكية وهي "أبل" و"جوجل" و"مايكروسوفت" و"أكسون موبيل" و"بيركشير هاثاواي"، لوجدنا أن الثلاث الأُوَل من أفضل خمس شركات في بداية عام 2016 وهي عبارة عن شركات منصات رقمية من حيث القيمة السوقية. إن نموذج الأعمال الذي يتمثل في المنتج والخدمة فقط أصبح في عداد الموتى ولا يمكن له الاستدامة الحقيقية بشكل أساسي. سيطرت شركة بلاك بيري في منتصف وأواخر العقد الأول من القرن الـ 21 على أعمال الهاتف المحمول، ولديها حصة سوقية تقدر بنحو 50 في المائة وتتطلع إلى النمو والاستحواذ عالميا. لكن تغير كل شيء أساسي في سوق الشركة، تحديدا في عامي 2008 و2009، حيث شهدت الشركة انخفاضا سريعا للغاية على مدى الأعوام الخمسة التالية حتى توقفت عن العمل فعليا. نعلم بالطبع صعود خدمة أندرويد من شركة جوجل وسطوع نجم آيفون من شركة أبل، حيث استخدم نموذج عمل مختلف "المنصات الرقمية" وليس "المنتجات والخدمات"، ولم تستطع شركة بلاك بيري المنافسة واضطرت في النهاية إلى الخروج من السوق. والخلاصة هنا هو أن فهم مبادئ استراتيجية المنصات الرقمية يؤدي إلى مساعدة الشركات التي تقدم حاليا منتجات وخدمات على تجنب مصير شركة بلاك بيري. لو نظرنا مليا إلى منصة "مايكروسوفت" على مدى الأعوام من 1980 إلى 2000، حيث تغلبت على منتجات "أبل" بكل سهولة، وكانت القيمة السوقية لشركة أبل ثابتة وتحوم حول الصفر تقريبا. لقد اتبعت "مايكروسوفت" استراتيجية الابتكار المفتوح Open Innovation، حيث سمح لها بالنمو السريع. استوعبت "أبل" الدرس القاسي واتبعت منصتها مبادئ الابتكار المفتوح الذي ساعد "مايكروسوفت" على تحقيق الهيمنة على المنتجات البرمجية Office Desktop، وحينها سيطرت شركة أبل على الهاتف المحمول. يقول البروفيسور جيفري باركر في كتابه (ثورة المنصات): "إن شركات التقنية ليست وحدها التي تمتلك الفرصة لإنشاء منصات رقمية، وإنما الباب مفتوح للجميع لمن يرسم سياسة المنصات الرقمية في استراتيجيته وسياسته".
إننا في هذه المرحلة التاريخية نشهد تغيرا جذريا في كل قطاعات الاقتصاد، وهذا التغير أكثر من كونه تواصلا اجتماعيا. يتعلق الأمر بصورة أساسية بالتأثير الشبكيNetwork Effects والقيمة التي يكتسبها المستخدمون والعملاء من بعضهم بعضا عند انضمامهم إلى منصات رقمية. على سبيل المثال لو نظرنا إلى شركة Airbnb، فكلما توافر مزيد من الغرف في مدينة معينة، سيكون هناك مزيد من الأشخاص المستعدين للبحث عن غرفة والعكس صحيح، وسيظهر مزيد من المضيفين من أجل توفير هذه الغرف، والنتيجة ردود فعل إيجابية من جراء منصة رقمية ذات طابع تأثير إيجابي. مثال آخر عن نظام التشغيل أندرويد. كلما زاد عدد مطوري أندرويد، سيكون هناك مزيد من مستخدمي أندرويد والعكس صحيح. والنتيجة هي الحصول على ردود فعل إيجابية لزيادة التأثير الشبكي والنمو في المنصة الرقمية بشكل واسع، وينطبق هذا المبدأ نفسه على كثير من المنصات والأسواق المختلفة التي يجب أن تكون على دراية وإحاطة بها. لقد شهدت صناعات متعددة مثل الفندقة والبيع بالتجزئة والتعليم وسيارات الأجرة والنقل والتوظيف والألعاب والعقار والسياحة والإعلانات والإعلام والعمل الحر وغيرها تغيرات أساسية في جانب العرض، لأن الشركات الرائدة بها استطاعت تبني فكر المنصات الرقمية لتقديم منتجاتها وعروضها بتكلفة أقل ... يتبع.

إنشرها