بعض ممارسات صناعة اللقاحات

تبذل دول العالم ومجتمعاتها قصارى جهدها لتعظيم رفاهيتها الاجتماعية ودعم مسيرة التنمية المستدامة من خلال السياسات وتوفير الخدمات العامة، التي أبرزها التعليم والرعاية الصحية. والتغطية الصحية الكفؤة مطلب أساسي من متطلبات الرفاهية الاجتماعية، كما أنها تعزز النمو الاقتصادي للدول والعالم. وتركز الدول على فعالية الرعاية الصحية الوقائية التي من أبرز مكوناتها توفير اللقاحات لجميع السكان وتطعيمهم على أوسع نطاق ممكن. وأثبتت التجارب أن التطعيم العام ضد الأوبئة من أكفأ وأرخص السبل لحماية المجتمعات من آثارها الكارثية.
واجه العالم خلال العام المنصرم جائحة كورونا التي تسببت في كثير من الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية حتى السياسية. سعت دول العالم، خصوصا المتقدمة، حثيثا وراء توفير علاج ناجع ولقاح للمرض لمواجهة تحديات المرض والعودة لمسيرة الحياة المعتادة. ولم يتم تطوير عقار وعلاج شاف من المرض حتى الآن، لكن نجحت شركتا فايزر ومودرنا مع شركائهما أخيرا في تطوير لقاحين لفيروس كورونا المستجد. ومن المتوقع ظهور عشرات اللقاحات ضد المرض في وقت قريب، حيث تجري التجارب على نحو 200 لقاح عبر العالم. وجرى تطوير اللقاحين في وقت قياسي مقارنة بمدد تطوير اللقاحات السابقة التي وصل بعضها إلى عشرة أعوام، والبعض منها فشل حتى بعد هذه المدة. ويبدو أن سبب التطوير السريع للقاحات كورونا المستجد يعود إلى تركيز السياسات على تطويره والدعم الكبير الذي تلقاه مطورو اللقاحات، وإلى انتشار الجائحة بشكل واسع في جميع الدول الغنية والفقيرة، ما رفع العوائد المتوقعة التي ستعود للسباقين في تطوير اللقاح. ورغم نجاح اللقاحين في مراحل التجارب الثالثة فإن نجاحهما الفعلي سيتأكد عند القيام بالتطعيم بشكل واسع، حيث ستظهر فعاليتهما ومدة حمايتهما والآثار الجانبية لتلقيهما بين الجمهور.
تفشل الأسواق في كثير من الأحيان في تحقيق المصالح العامة وتعظيم الرفاهية الاجتماعية. وتعد حماية الصحة العامة، ومن ضمنها تطوير اللقاحات والصحة الوقائية بشكل عام، أحد مجالات فشل الأسواق. فهناك عديد من الأمراض التي تفتك بالفقراء أو الدول الفقيرة ولا تعير صناعة اللقاحات وشركاتها أي اهتمام، لانخفاض العوائد المتوقعة من تطويرها وتصنيعها. وتتخوف الشركات المطورة من ارتفاع مخاطر خسائر وتعقيدات تطوير اللقاحات وتصنيعها وتوزيعها وتقبل الجمهور لها. ويعتمد تطوير اللقاحات بشكل كبير على دعم الحكومات والمؤسسات الدولية والبحثية والخيرية. وحظي تطوير لقاح كورونا المستجد بدعم كبير لم يسبق مثله في التاريخ، لهذا نرى هذا التسابق في تطوير لقاح للمرض.
العوائد من تطوير اللقاحات على الصحة العامة والمرضى واقتصادات الدول مرتفعة ومجدية لكن الإمكانات المادية للدول، وحجم انتشار الأمراض، ومدى اتساعها، ونوعية المرضى (فقراء أم أغنياء أو سكان دول فقيرة أو غنية) تحدد مقدار الدعم الذي يناله تطوير اللقاح. وهذا يفسر عدم اكتراث الشركات المطورة للقاحات بكثير من الأمراض التي تفتك بالدول النامية والفقيرة. وتطور اللقاحات عادة بدعم حكومي أو مؤسسات غير هادفة للربح، لكن تسعيرها وأرباحها والتحكم في عرضها يعود للشركات المصنعة والمطورة.
وتحجم الشركات الكبيرة عن تطوير اللقاحات بسبب تركيزها على توزيعات الأرباح وخفض مخصصات البحث والتطوير. وعلى النقيض مما يتصوره كثير من الناس، تتحمل شركات صغيرة ومراكز الأبحاث معظم مسؤوليات تطوير اللقاحات ومواجهة المخاطر، بينما تأتي الشركات الكبيرة بعد نجاح اللقاحات وتتولى عمليات تصنيعها وتوزيعها. ومع هذا، فإن الشركات الكبيرة هي التي تتمتع بقوى احتكارية في حالة التطوير نظرا لقلة عددها. ويقدر أن عددا محدودا جدا من الشركات الكبيرة - قد لا يتجاوز خمسا - يسيطر على معظم عمليات التصنيع والتوزيع الفعلي للقاحات بعد نجاح الأبحاث والتطوير، وهذا يسري أيضا على الأدوية الجديدة. وتقوم الشركات الكبيرة عادة بممارسات احتكارية متعددة من ضمنها حجب معلومات الصفقات والتمييز في الأسعار. وتفرض الشركات الكبيرة في كثير من الأحيان أسعارا مختلفة لأدويتها ولقاحاتها على زبائنها. ومن الأمثلة المعروفة على ذلك ما قامت به الشركة المطورة لأدوية مرض الكبد الوبائي، حيث وضعت ثلاثة أسعار للدول الفقيرة ومتوسطة الدخل والغنية. وتصل تكلفة الدواء للدول الغنية إلى ما يزيد على 80 ضعف الدول الفقيرة. ولا يقتصر الأمر على التمييز في التسعير، إذ قد تقود الممارسات الاحتكارية إلى شح في إمدادات الأدوية واللقاحات. ويشير بعض المصادر إلى أن الشركات المصنعة للقاحات قد تفرض شروطا وقيودا على المشترين من بينها التكتم على السعر وعدم البوح به، وكذلك المحافظة على سرية اتفاقيات الشراء التي قد تتضمن بنودا تحد من المنافسة في الأسواق. وتقود القيود التي تفرضها شركات تطوير اللقاحات إلى الإضرار بالمشترين وحجب المعلومات التي تفيد في التبادلات المستقبلية وتوافر البيانات للمهتمين بها. وتستغل الشركات الكبيرة التي تعتزم تصنيع اللقاحات قوتها السوقية في فرض شروط معينة حتى على الحكومات الداعمة لتطوير لقاحات وقت الجوائح التي من أهمها: ضمان حصص معينة في الأسواق، وتعويضات مجزية في حالة الخسارة أو الفشل. ويعتقد أن هذه الممارسات تتطلب وقتا ثمينا عند انتشار الأوبئة وتقود إلى تأخر تطوير اللقاحات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي