Author

سوق الأسهم بين الحتم والصراع

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في سوق الأسهم أنواع مختلفة من المستثمرين، ونظريات متعددة لتفسير سلوك السوق، ولكل منها مرتكزاته وفرضياته التي يستمد منها قراراته، من يظن أن كل المستثمرين لهم النظرة نفسها للسوق، فقد أخطأ مع الأسف. وعذرا - عزيزي القارئ - على قسوة كلمة "أخطأ". السوق عبارة عن نتيجة مجموعة واسعة من القرارات لعدة أشخاص وجهات تعمل معا في وقت واحد، وتتفاعل كي تظهر لنا حالة السوق في لحظة ما، وهذا ليس منحصرا في سوق الأسهم فقط، بل في كل الأسواق، ومن بينها العقار حتى سوق العمل، لكني أخصص سوق الأسهم هذه الأيام، نظرا إلى كثرة ما أسمع في المجالس كلها تقريبا من نقاشات عن السوق أو اتجاهاتها. فالسوق هي نتيجة سلوك اجتماعي لكل العاملين فيها، من مشترين أو بائعين أو مؤسسات تمويل أو حكومة. وإذا أردت فعلا الفوز في هذه السوق، أو لنقل: التعامل معها بفاعلية، فعليك أن تحدد النافذة التي سترى من خلالها أحداث السوق، لكن مع إدراكك وجود النوافذ الأخرى والآخرين الذين يعملون من خلالها.
والآن تصور أنك تستطيع النظر إلى السوق من خلال أربع نوافذ: النافذة الأولى ترى فيها السوق كأنها آلة تتحرك بطريقة منظمة جدا، كل شخص له دور واضح للقيام به في وقت واضح. فالسوق تفتح للتداول في وقت معين، ليبدأ الراغبون في الشراء بوضع عروضهم ويفكر البائعون في ذلك، وبين قبول البيع أو عرض أسعار أعلى، ثم أنت تبدأ بتطبيق معادلات ارتباط السهم بمؤشر السوق وتحدد قيمة بيتا، وتراقب منصة إعلانات السوق، حيث تعلن الشركات فيها أخبارها، فإذا كانت هذه الأخبار جيدة، فإن تقييم السهم سيرتفع، وبذلك ستتزايد الطلبات على الشراء وتبدأ آلة العرض والطلب بالعمل، وعليك تفقد قراءة ذلك في سعر السهم، إذا أنت في هذه النافذة وتحركت الأسعار بطريقة ليست وفقا لقواعدها وأنت لا تعرف السبب ولا تجد خبرا ولا جديدا في القوائم المالية ولا في تقرير المراجع، وإذا اجتهدت جهدك لتفهم حركة هذه الآلة وفشلت، فإنك فورا تقول: إن هناك تلاعبا، أو عطلا في مكان ما، وتطلب محاسبة المتسبب فورا.
إذا اخترت النافذة التالية، سترى فيها تفكيرك كجزء من المشكلة. قد تعتقد أن فهمك للإعلان يختلف عن فهم غيرك له، وتظن أن توقعاتك للمستقبل أفضل من توقعات غيرك، ورغم أنك ما زلت ترى السوق كالآلة التي تتحرك وفق قوانين العرض والطلب، وفق ما يتم تداوله في السوق، لكن المشكلة هي في الفهم العام لهذه السوق. أنت تراهن على قدرتك في فهم المعلومات، كما ترى السوق ذات شخصية لها نمط حياة، وهنا قد ترى الأنماط الفنية مهمة، فالسوق تعمل على مفاهيم مثل الثيران والدببة، فهناك من يقرأون الخبر بتشاؤم، وهناك من لم يزل متفائلا بالمستقبل، وبين هؤلاء تتشكل أنماط السوق، وفقا لما يسمى التحليل الفني، وما يؤمن به البعض من نقاط مقاومة ونقاط دعم، وفي الحقيقة ليست إلا مشاعر السوق تتشكل في منحنيات، وإذا فشلت فإنك تعلن حظك العاثر وترددك.
هاتان النافذتان محكومتان بما نظمته الآلة الحتمية للحركة في السوق، التي نعتقد أنه لا أحد قادر على تغييرها أو إيقافها. نعم، قد يبدأ البعض بتحفيز هذه الآلة من خلال بث معلومات كاذبة أو مضللة، ولهذا تأتي هيئة السوق المالية كجزء من نظام الآلة لمنع هذه التشوهات. لكن إذا تأملت من جانب آخر أن المسألة ليست كذلك، فالسوق يتم تغير مسارها بناء على القوى المتصارعة فيها، ترى هناك الصناديق الاستثمارية وصناديق المؤشرات، وترى أن هذه الصناديق تراقب قرارات بعضها بعضا، وتحارب بعضها بعضا، أو تتفق بين بعضها ضد بعض، وهناك صناديق أجنبية ومحلية. ويمكنك أن ترى كيف يتم تغيير المراكز الاستثمارية، هنا ترى الصراع وليس العرض والطلب، ومن يتذكر كيف قفزت السوق المالية في الأعوام التي سبقت انهيار 2006، يدرك هذه الصورة جيدا، فالمصارف قدمت حوافز غير عادية للمتداولين، وشجعت على فتح المحافظ، كما أن الصراع الضخم بين الصناديق لاستقطاب المودعين، وفي وقت التحولات المفاجئ من التداول عن طريق المصارف إلى التداول الفوري عبر منصات السوق، كل هذا غير بشكل خطير استراتيجيات الصراع، وهذه النافذة، وسينصب فهمك على المواقف الاستراتيجية التي يتخذها الآخرون وما يترتب عليها من تغيير في شكل السوق والتطوير في آليات التداول. وهنا لست بحاجة إلى قراءة منحنيات أو قوائم المالية أو معلومات متاحة في السوق، بل عبر التنافسية وقوة الصراع في السوق بين الصناديق والمحافظ الرئيسة.
في النافذة الأخيرة قد ترى المسألة من هذا النوع من الصراع وهذه المراقبة للتصرفات، لكنك لا تظن أن الموضوع يمكن تحليله بسهولة، فلا معلومات متاحة عن هؤلاء الأقوياء، لكن في الوقت نفسه مؤمن بأنهم يشكلون الحالة الراهنة للسوق، هنا قد تظن أن التوصيات التي يقدمها الغامضون حل لما تعتقده مشكلة السوق، فهؤلاء الغامضون هم كبار "الهوامير" أو يعرفونهم "هوامير"، ونسمع عنهم ولا نجدهم، هنا قد ترى أن عليك معرفة أحد هؤلاء الكبار فعلا، لتتخذ قرارك.
في الواقع لا يوجد تفسير كامل للسوق المالية، وهي في حقيقتها نتيجة قرارات كل هؤلاء الذين ينظرون إليها من خلال هذه النوافذ. لا يوجد شخص قادر على مشاهدة السوق من كل هذه النوافذ، لا يستطيع أحد ذلك لأنه سيصاب فورا بالهذيان. عليك فقط أن تعرف شخصيتك أنت، وتختار نافذتك.
إنشرها