Author

التعليم ودوره في مسيرة التنمية

|
تستهدف دول العالم بشكل عام تحقيق العدالة في مجتمعاتها وخفض الفوارق الفاحشة في الثراء والدخل وفرص النجاح أمام جميع شرائح المجتمع وأفراده. وتتبنى المجتمعات سياسات وأدوات متعددة لتوفير أكبر قدر من عدالة توزيع الدخل والثروة ويحقق كثير منها نجاحات متفاوتة، بينما تفشل جهود مجتمعات أخرى في خفض فجوات توزيع الدخل والثروة المتعاظمة. يعد التعليم من أبرز الوسائل والأدوات التي تسعى الدول لاستخدامها في المسيرة التنموية، ومحاربة الفقر، ورفع عدالة توزيع الدخل والثروة، وزيادة رفاهية الشرائح السكانية المهمشة. وتشير تجارب كثير من الدول التنموية إلى نجاح التعليم في رفع معدلات النمو الاقتصادي، وخفض معدلات الفقر، وتحسن عدالة توزيع الدخل وخصوصا في مراحله الأولى. ويتم ذلك من خلال زيادة مهارات الشرائح السكانية الفقيرة والأقل دخلا رافعا إنتاجيتها وبالتالي أجورها ودخلها، كما يولد التعليم عديدا من المنافع والمكاسب النفسية والاجتماعية والصحية.
سادت نظرة بأن التعليم يسهم في زيادة عدالة توزيع الدخول في دول العالم. وتساند هذه النظرة مسيرة التنمية في دول العالم وكذلك الواقع المحسوس بالنسبة للأفراد، حيث لا تخفى العلاقة الإيجابية بين دخول الأفراد وأعوام التعليم التي يحصلون عليها. ومن المسلم به أن أصحاب الشهادات العليا يحصلون على أجور أفضل عند التخرج ممن حصلوا على تعليم أقل. أما على المستوى الكلي فقد حققت دول نامية كثيرة تحسنا في عدالة توزيع الدخول خلال العقود الماضية، وإن كان عديد منها ما زال يعاني تراجع عدالة الوصول إلى التعليم والرعاية الطبية والتمويل. من جهة أخرى، ازدادت أعوام التعليم التي يحصل عليها الأفراد في الدول المتقدمة ولكن عدالة توزيع الدخول في بعضها، كالمجتمع الأمريكي، تراجعت في العقود الأربعة الماضية.
مر كثير من الدول النامية بمراحل ارتفعت فيها معدلات التعليم وتحسنت عدالة توزيع الدخل وانخفض فيها الفقر، ولكن بعد ذلك تراجعت فيها عدالة توزيع الدخل وازداد الفقر. قد يعود هذا إلى حاجة أسواق العمل الماسة، في البداية، إلى الأيدي العاملة بمهارات محدودة وفرها التعليم الأولي، وقاد هذا إلى رفع أجور الأيدي العاملة المتدربة والمتعلمة مهارات محدودة أو وسيطة. بعد ذلك مرت الدول بمرحلة تتشبع فيها أسواق العمل بمستوى معين من مهارات العمل، ما قاد إلى جمود أجور ودخول شرائح كبيرة من السكان متوسطي ومنخفضي الدخل. في المقابل، تراكمت مدخرات وثروات الأغنياء وارتفع بموجب ذلك استثماراتهم ودخولهم وحصتهم من الدخل القومي الإجمالي مقارنة بالشرائح السكانية الأخرى.
تسهم سياسات التنمية الاقتصادية وتطور القطاعات الإنتاجية، بقوة، في توليد الوظائف وتحسن الأجور. ويقود التطوير الرافع للقيمة المضافة إلى زيادة الطلب على الأيدي العاملة الأكثر مهارة والأعلى أجرا في مراحل لاحقة من التنمية، ما يستدعي تعليما وتدريبا أعلى ولكنه أكثر تكلفة. عندما تصل الدول إلى مرحلة الدخل المتوسط يرتفع الطلب على مهارات وتعليم أعلى وترتفع أجور عمالتها. تخصص الأسر مع تسارع عملية التنمية مزيدا من الموارد للإنفاق على تحسين المهارات. وتتمكن الأسر الأعلى دخلا من تحسين مهاراتها وتعليم ورفع أداء أفرادها، بينما تتراجع قدرات الأسر الفقيرة ومحدودة الدخل، ما يزيد تركيز الوظائف مرتفعة الأجر في الأسر الأعلى دخلا. وفي هذه الحالة قد يتسبب التعليم في تراجع عدالة توزيع الدخل واستفحال الفقر في مراحل التنمية اللاحقة.
تلعب سياسات التعليم العامة دورا حاسما في وصول الشرائح السكانية منخفضة الدخل إلى خدمات التعليم بجميع أنواعه. وتوفر الدول عادة التعليم الأولي مجانا وتنشر مؤسساته في أرجاء الدول. بعد ذلك تتباين سياسات الدول في مجانية ودعم التعليم العالي، ما يصعب من وصول منخفضي الدخل إلى التعليم العالي، فكلما قل الدعم المقدم للتعليم العالي انخفضت فرص عدالة توزيع التعليم والتدريب وازدادت احتمالات تراجع عدالة توزيع الدخل. كما تسهم جودة التعليم العام في عدالة توزيع الدخل، حيث يعاني التعليم العام في كثير من الدول تراجع جودته مقارنة بالتعليم الخاص، ما يخفض فرص الشرائح السكانية الأقل دخلا في الحصول على الوظائف والمهن جيدة الأجر. كما يقود أسلوب تمويل التعليم العام وعدالة توزيع جودته بين المناطق والمدن والأحياء منخفضة الدخل ومرتفعة الدخل، إلى تباين مخرجاته، فإذا انخفضت جودته في النواحي المقطونة بالشرائح السكانية الأقل دخلا تراجعت عدالة توزيع الدخل.
يشير تراجع عدالة توزيع الدخل في أي دولة إما إلى تراجع كفاءة سياسات التنمية الاقتصادية وإما إلى تراجع فعالية السياسات العامة في دعم قدرات ووصول الشرائح السكانية منخفضة الدخل إلى الخدمات العامة وأهمها التعليم والتدريب العالي. وتسهم سياسات التعليم المجاني، وحجم الإنفاق عليه، ورفع أدائه وجودته، وعدالة توزيعه، وسياسات تمكين الأسر منخفضة الدخل من الوصول إليه، في رفع عدالة توزيع الدخل. ويسهم أسلوب تمويل التعليم العام، في تحسين أو تراجع وعدالة توزيعه وضمان جودته بين الأغنياء والفقراء. فانعدام أو انخفاض أو تراجع دعم التعليم العالي يضع معوقات أمام منخفضي الدخل للوصول إليه. كما أن الاعتماد على مصادر الحكم المحلي في بعض الدول لتمويل التعليم يقود إلى تراجع جودته في المناطق الأقل دخلا والأقل تمويلا للتعليم. ولهذا، فإن مركزية وضخامة وكفاءة الإنفاق على التعليم العام تضمن بشكل أفضل عدالة توزيع الموارد على التعليم في المناطق منخفضة ومرتفعة الدخل كافة.
إنشرها