Author

هل فعلا يستحقان جائزة نوبل في الاقتصاد؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
انتشرت الأنباء أمس حول العالم بفوز العالمين الأمريكيين بول ميلجروم وروبيرت ويلسون، بجائزة نوبل في الاقتصاد، وذلك عن أعمالهما بشأن المزادات ذات المعروضات المتعددة. فالمعتاد دائما أن يتم عرض المزاد لكل نوع على حدة، وإذا انتهى المزاد يتم عرض النوع الآخر، وهكذا حتى ينتهي المزاد على كل المعروضات. لكن هذه الصورة التقليدية للمزاد تجعل المخاطر تتفاقم إذا كانت المعروضات ذات قيمة ضخمة جدا، ولها علاقات متشابكة، أو تمس شرائح واسعة من المجتمع، مثل الأسهم والسندات.
فالسعر الذي ينتهي عنده المزاد الأول، يؤثر في قرارات المستثمرين في المزاد الذي يليه، لأسباب لا يسع هذا المقال لذكرها تفصيلا، لكن يبقى السؤال الأهم عند البعض في أنه يصعب فهم كيف للقائمين على جائزة نوبل منح هذه الجائزة لمجرد تطوير في نظرية المزادات؟ من هذا المقال أوضح لماذا الأمر يستحق فعلا.
بداية، فإن نظرية المباراة Game Theory لم تزل سيدة المشهد في جوائز نوبل والجوائز العلمية المختلفة، وذلك منذ اكتشافها وتطويرها على يد عدد من العلماء في الرياضيات وحصل معظمهم على جوائز قيمة جدا نتيجة تلك الأبحاث، وقد يصعب شرح التطورات المدهشة التي أنتجها الباحثون الفائزون بجوائز نوبل في الاقتصاد ما لم يقم الواحد منا بفهم عميق لنظرية المباريات. ومع الأسف، فإن هذه النظرية المدهشة لم تزل بعيدة عن الفهم عند كثير من طلاب الجامعات، والمقررات تمر عليها سريعا، ولذلك لأسباب مختلفة، جميعها تعود إلى طرق التفكير ومناهج البحث التي نتبعها هنا في عالمنا العربي، عموما.
فنحن كقاعدة أساس، لا نعتد بالعلماء إلا إذا كانوا من أهل العلوم الطبيعية، ولا يمكن تصنيف شخص عالما ما لم يكن في معمل وأمامه تلك القطع والمواد، وهذا جعلنا عقودا طويلة نتجاهل العلوم الاجتماعية كمرتكز أساس في تطور الإنسان. ولن أقع في فخ بكائيات إغلاق هذه الأقسام والتحولات الهزيلة بشأنها التي حدثت في الجامعات العربية، عموما.
فرغم التحولات الكبيرة التي شهدها العالم اليوم، فإن بدايات نشأة العلوم الاجتماعية على يد علماء، مثل دوركايم وغيره كثير من مثل آدم سميث في علم الاقتصاد، كانت تعد هذه العلوم امتدادا للعلوم الطبيعية، بمعنى أن الإنسان والمجتمع يعملان ضمن علاقة محتومة محكومة بقواعد وقوانين ليس للإنسان دور فيها ولا في تشكيلها، لهذا صور آدم سميث الاقتصاد كما صور نيوتن الكواكب وعلم الفلك والجاذبية، وكما الكواكب في الفلك كانت عوامل الإنتاج في الاقتصاد، وكما هي الجاذبية يد خفية تحفظ التوازن الكوني، كانت المصالح الشخصية يدا خفية تحافظ على توازن الاقتصاد. وفي عالم كهذا، فإن قوانين سلوك الأسعار والسلع واكتشاف المنافسة والفائدة وكيف وضع هيربرت سبنسر قانون البقاء للأقوى، تعد فعليا استعارات مفضوحة لقوانين طبيعية، لكنها كانت تزلزل العالم حينها وتجعل الناس تقبل واقعهم المرير، وبها تقبل التشريعات وفقا لكل تلك الاكتشافات التي عندما تقرأها اليوم تجدها نوعا ما بديهية أكثر منها اكتشافات علمية، ولعل احترامك لها يذهب فعليا إلى كيفية صياغة هذه الأفكار في معادلات رياضية. لكن هول التحولات الصعبة كان مع التأملات الخطيرة للعالم الألماني كانط وكذلك هيجل، ثم المواجهات العلمية الكبرى لماركس، عندما جاء كل هؤلاء بأفكار مفادها أن المجتمع ليس آلة وأن الإنسان ليس قطعة من الحديد فيه، والقوانين التي تحكم تصرفاتنا هي من صنعنا نحن، وظهرت مفاهيم مثل الديالكتيك للوجود.
إنها الراديكالية المرعبة عند التفكير فيها أو حتى الاقتراب من فلاسفتها، فالمجتمع لم يعد مستقرا ثابتا ولم يعد محكوما بالحتمية التي وجدت قبل أن نكون موجودين في هذا الكون، بل إن المجتمع هو نتاج عقولنا فقط وتفكيرنا وخياراتنا فيه، ولن أذهب بعيدا في ذلك، بل من المهم أن نعرف الفرق بين من يرون المجتمع حتمي العلاقات ونحن نستسلم له، وعلى المختصين في شأنه اكتشاف كيف ظهر بهذا الشكل، وما القوانين التي تحكم العلاقات ضمنه، ومن ثم نتخذ قرارات المستقبل ونتنبأ بأي مشكلات أو نتوعد من يغير في سلوكه، لأنه سيتسبب في مشكلة كونية، مثل التغيير في البيئة تماما، يتم النظر إلى التغيير في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. هنا يفكر الباحثون بجمود نحو آليات عمل وتفاعل المجتمع في الاقتصاد والأسواق، وفي هذا المربع تجد كل الأبحاث والدراسات العربية تقريبا "ولا تعميم"، ومن يعمل خارج هذه الحقول، فإنه يصعب قبوله أو بحثه أو يجد من يؤمن به. وفي هذه البيئة حتمية الآلية، فإن الجميع يرى الأسعار نتيجة عمل آلة العرض والطلب، وفي المزادات، فإن الموضوع لا يحتاج إلى تطوير، فالعدالة سيدة الموقف. وهنا سيقول أي شخص ينظر من هذه النافذة: إن أعمال العالمين الأمريكيين بول ميلجروم وروبيرت ويلسون لا تستحق أي جائزة.
لكن من يرى المجتمع غير حتمي العلاقات، فهو متغير ويتبدل، لا تحكمه قوانين سابقة، ولا تفسره الحتمية الآلية، وأن الخوف يفسر سلوكنا في الحياة، والحرمان يشرح تشبثنا بالبقاء، فإن المنافسة تصبح صراعا، والصراع يصبح مباراة من أجل الفوز، ولهذا فإن العدالة ليست مضمونة حتميا، بل نحتاج إلى ضمان عدالة الصراع، وفي مجتمع هذا شكله، فإن تصميم ملعب المباراة سيغير عدالتها ونتائجها، وهكذا فإن الأسعار لم تعد محكومة جبرا بالعلاقات بين العرض والطلب والمنافسة ليست عادلة حتما، لكن شكل وتصميم السوق يغيرها دوما في ديالكتيك لا نهائي.
هنا جاء إبداع العالمين الأمريكيين في تطوير المزادات، فنتائج المزاد ليست حتمية بقواعد لا مفر منها، بل إن تصميم المزاد وسوقه يغير نتائجه دائما، وعلى هذا عليك القياس والفهم، فإذا كان طرح الأسهم للاكتتاب يمثل لنا آليات حتمية لا مفر منها، فإنه لم يعد كذلك مع نتائج أعمال هؤلاء المفكرين، فقط غير آليات وتصميم الطرح، كما غيرته "جوجل" عندما طرحت الأسهم، وستتغير النتائج جذريا. وفي تصميم وبناء سوق على الإنترنت، فإن نتائج العرض والطلب ستتغير، وكلما غيرت تصميم السوق تغيرت، وهنا لا بد لك من الاستفادة من علماء الاقتصاد أمثال بول ميلجروم وروبيرت ويلسون لتغير تصميم اللعبة وتحصل على أفضل نتائج، فهل يستحقان الجائزة؟
إنشرها