أيقونة القضاء الأمريكي تثير السجال حية وميتة

أيقونة القضاء الأمريكي تثير السجال حية وميتة

أيقونة القضاء الأمريكي تثير السجال حية وميتة
روث: "أمنيتي الصادقة هي ألا يتم استبدالي قبل أن يتم انتخاب الرئيس الجديد".

يتجه ترمب إلى حسم المعركة السياسية المحتدمة، بين الديمقراطيين والجمهوريين، حول ملء منصب روث بادر جينسبورج، عميدة قضاة المحكمة العليا الأمريكية، التي رحلت الأسبوع الماضي عن عمر يناهز 87 عاما، بعدما خسرت ثالث معركة لها مع السرطان، فقد سبق لها أن نجت من سرطان القولون عام 1999، وسرطان الرئة عام 2018، لتفشل في مواجهة سرطان البنكرياس.
تعد الراحلة أيقونة في سماء العدالة الأمريكية، فقد أشاد ممثلو كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي بمسارها النوعي في الولايات المتحدة الأمريكية، ودورها الكبير في الدفاع عن حقوق المرأة في بداية حياتها المهنية، حيث كانت قوة تقدمية مؤثرة داخل المحكمة العليا، كزعيمة لتحالف يميل إلى اليسار وسط أغلبية محافظة من القضاة.
ووصفها دونالد ترمب بكونها "عملاقة في القانون"، وأضاف في بيان نعيها "لقد اشتهرت القاضية جينسبورج بعقلها اللامع، ومعارضتها القوية في المحكمة العليا، وبرهنت على أنه يمكن للمرء أن يختلف دون أن يكون مزعجا لزملائه أو لوجهات النظر المختلفة". فيما أكد جون بايدن المرشح الديمقراطي للرئاسة، أن الراحلة خطت مسارا سيستمر في أمريكا، فـ"آراؤها ومعارضتها، ستستمران في تشكيل أساس القانون". وعبّر جون روبرتس زميلها رئيس المحكمة العليا عن مكانتها بقوله، "خسرت أمتنا عالمة حقوقية ذات قامة تاريخية". وكشفت هيلاري كلينتون المرشحة الرئاسية السابقة عن مدى تأثير الراحلة في حياة النساء الأمريكيات، عادّة أنها "...مهدت الطريق لعديد من النساء، بمن فيهن أنا، لن يكون هناك أي شخص مثلها. شكرا لك يا روث".
مسار عصامي حافل
تتحدر جينسبورج من أصول عمالية في حي بروكلين في مدينة نيويورك، من أبوين يهوديين مهاجرين، كانت زوجة وأما، قبل بداية مشوارها الدراسي في كلية الحقوق في جامعة هارفارد، حيث كانت ضمن أقلية من النساء ضمن دفعتها، وجاءت الأولى ضمنهن، ما سمح لها بولوج المجال الأكاديمي، لتصبح أستاذة للقانون المدني في كلية حقوق روتجرز.
واجهت في مسيرتها منعطفات أسهمت في تشكيل قناعاتها، فقد تعرضت لعديد من مواقف التمييز على أساس النوع، إذ سبق لعميد كلية الحقوق حيث تدرس، أن طلب منها عام 1963 القبول بمعاش قليل، لكون زوجها يتقاضى أجرا عاليا، كما اضطرت إلى ارتداء ثياب فضفاضة، عندما كانت حاملا بطفلها الثاني، حتى لا يعلم أحد بحملها، فتتعرض للتسريح من العمل.
كانت قبل انضمامها إلى السلطة القضائية، محامية شرسة في نيويورك ونيوجيرسي، وانتخبت لمراجعة القانون في كليتي "هارفارد" و"كولومبيا"، وفازت زمن السبعينيات، في خمس من أصل ست قضايا تمييز بين الجنسين، رُفعت أمام المحكمة العليا، كما برعت في مجالات متنوعة، مثل مزايا الضمان العسكري والاجتماعي، وضريبة الملكية والقواعد التي تحكم واجب هيئة المحلفين، كما اشتهرت بدفاعها عن قانون الرعاية الصحية "أوباماكير"، وتعزيز حقوق الأقليات العرقية والفقراء والمحرومين.
عينت عام 1993، من قبل الرئيس بيل كلينتون كقاضية في المحكمة العليا الأمريكية، وكانت ثاني قاضية بعد ساندرا داي أوكونور، وضمن أربع نساء "سونيا سوتومايور وإيلينا كاجان" يعينَّ في تلك المحكمة. منذ التحاقها بهيئة المحكمة، شرعت في تعزيز البعد الليبرالي في قراراتها، حيث كانت لقضايا النساء والمساواة حصة الأسد في أحكامها، وشغلت في الأعوام الأخيرة منصب العضو الأكبر في الجناح الليبرالي للمحكمة، حيث كانت تصوت باستمرار بشكل تحرري على القضايا الاجتماعية الأكثر إثارة للجدل، بما في ذلك حقوق الإجهاض والمثلية والهجرة والرعاية الصحية.
صدر لها قبل أربعة أعوام، كتاب مثير "كلماتي" my own words، حقق نسبة مبيعات مهمة، تعزز بفيلم وثائقي عن حياتها في بروكلين مع أسرتها اليهودية المحافظة، ومشوارها الصعب في دراسة القانون، ثم ولوج عالم المحاماة والقضاء، عام 2018 بعنوان RBG، صنف في قائمة أكثر الأفلام الوثائقية المستقلة ربحا لذاك العام، والمرشح لعديد من الجوائز بما فيها جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي.
كان إيمان الراحلة بمعركتها فوق كل التوقعات، فبعد أن رسمت لنفسها خطة للتقاعد عام 2016، بعد أن تطمئن إلى تحقق رسالتها، بتولي المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون رئاسة البلاد، عدلت عن هذا المخطط بعد هزيمة هيلاري، وقررت الصمود في منصبها، على الرغم من تقدمها في العمر بدخولها العقد الثامن، وتدهور حالتها الصحية.
جدال بعد الرحيل
أسرت القاضية روث، قبل أيام قليلة من وفاتها إلى حفيدتها بأن "أمنيتي الصادقة، هي ألا يتم استبدالي قبل أن يتم انتخاب الرئيس الجديد"، أمنية لم يكتب لها أن تتحقق، بعدما أعلن ترمب عزمه تعيين إيمي كوني باريت الكاثوليكية المحافظة مكان الراحلة روث، قرار يبدو أنه سيتحقق في المقبل من الأيام، وقبل حلول موعد الانتخابات، لذلك ستصبح المحكمة العليا الأكثر انحيازا للمحافظين منذ قرن.
استطاع ترمب منذ دخوله البيت الأبيض تعيين قاضيين محافظين، وهذه فرصته لإضافة قاض ثالث، ليكون إجمالي المحافظين فيها ستة قضاة من اليمين ضد ثلاثة قضاة يساريين في المحكمة العليا. وتتكون تشكيلة المحكمة في الأصل من تسعة قضاة، يعينهم الرئيس الأمريكي، ويوافق مجلس الشيوخ بالتصويت عليهم بالأغلبية البسيطة، يبقون في مناصبهم مدى الحياة، ولا تنتهي خدمتهم إلا بالوفاة أو الاستقالة أو التقاعد، ولكل قاض صوت واحد، وتصدر قرارات المحكمة بالأغلبية البسيطة.
يمثل هذا التعيين الجديد السريع، على غير العادة، فعلى سبيل المثال استغرقت الإجراءات قصد تثبيت القاضي جورسيتش تسعة أسابيع، و13 أسبوعا بالنسبة إلى القاضي كافانو، لكن مع رئيس وأغلبية جمهورية متحمسة لإنهاء عملية الاختيار في أسرع وقت ممكن، يمكن أن ينتهي الأمر سريعا، خاصة أنه ورقة انتخابية رابحة لترمب في معركته الرئاسية، فبتحقيقه سيؤمن الرجل أغلبية مريحة للمحافظين في المحكمة العليا التي تملك الكلمة الفصل في عدد من القضايا الحساسة التي ينقسم حولها المجتمع الأمريكي "الإجهاض، حق الأقليات، حيازة السلاح، عقوبة الإعدام...".
بهذا تصر عميدة القضاة على أن تملأ الدنيا وتشغل الناس حتى بعد رحيلها، فمعركة تعيين القاضية الجديدة لا محالة ستكون حامية بين الجمهوريين والديمقراطيين، لا بل إن خبر وفاة الراحلة ألهب حماس الناخبين، حيث تضاعف حجم التبرعات للحزبين في الساعات التي تلت إعلان خبر وفاة القاضية.
لن يستكثر كل من شاهد سيرة الراحلة في الفيلم الوثائقي أو اطلع على مذكراتها، ما جرى ويجري بشأنها، فالمرأة استطاعت أن تنسج في مسار حياتها خيوطا وتقاطعات حولتها إلى أيقونة، خرج آلاف في مشهد مؤثر، متحدين مخاطر فيروس كورونا، من أجل توديعها بالشموع والورود.

الأكثر قراءة