منظمة التجارة .. حجر الزاوية في النظام العالمي متعدد الأطراف تواجه تحديات مصيرية

منظمة التجارة .. حجر الزاوية في النظام العالمي متعدد الأطراف تواجه تحديات مصيرية
الدول المتقدمة لا تزال المستفيد الأكبر من المنظومة التجارية الدولية الراهنة. "الفرنسية"

منذ تأسيسها في الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1995، ومنظمة التجارة العالمية تعد حجر الزاوية في نظام التجارة الدولية متعدد الأطراف. وأيضا ومنذ تأسيسها والمنظمة تواجه عديدا من التحديات والصعاب والأوقات الحرجة، لكنها الآن تواجه ما يمكن اعتباره لحظة مفصلية في تاريخها، فإما أن تعبرها لتكون نقطة انطلاقها الثانية، وتؤسس بذلك لنجاح مستقبلي طويل الأمد. وإما الإخفاق لتضع بذلك تجربة دولية رائدة على المحك في مجال تحرير المنظومة التجارية الدولية.
مثلت المنظمة إطارا سعى لتحقيق ثلاث وظائف رئيسة تمثلت في توفير منتدى تفاوضي بين الدول الأعضاء لتحرير التجارة الدولية، ووضع قواعد جديدة للتجارة الدولية ومراقبة السياسات التجارية للدول، وأخيرا حل النزاعات بين أعضاء المنظمة البالغ عددهم 164 عضوا.
مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى سدة السلطة، شن حملة عدائية عنيفة ضد منظمة التجارة الدولية، باعتبارها منظمة عفا عليها الزمن، مبينا أن أنشطتها لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة، بل باتت معوقا أمام تحقيق واشنطن مصالحها التجارية.
وفي آب (أغسطس) عام 2018 وصفها بأنها "أسوأ صفقة تجارية تم التوصل إليها على الإطلاق"، مهددا بأنه إذا لم يُعَد تشكيل المنظمة فستنسحب واشنطن منها. واتخذت الإدارة الأمريكية خطوات ملموسة تبرهن على جديتها بشأن إعادة تشكيل المنظمة، فمنعت التعيينات الجديدة في هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة، وأضعف ذلك بشدة الآلية الرئيسة لتسوية النزاعات داخلها، وعلقت عمليات هيئة الاستئناف فعليا من كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
في الحقيقة فإن واشنطن لا تقف وحيدة في انتقاد أداء المنظمة وآليات عملها، إذ يشاركها آخرون أبرزهم الاتحاد الأوروبي واليابان، وإن لم يقبلوا بتكتيكات الرئيس الأمريكي، ولكن الولايات المتحدة كانت الأكثر صخبا في الإعراب عن انتقادها، والأكثر قدرة على تنفيذ تهديداتها.
وبحسب محللين غربيين تحدثوا لـ"الاقتصادية " فإن الانتقادات الموجهة للمنظمة تختلف وتتعدد، فالمزارعون ومجموعات العمال يتهمونها بالتركيز بشكل ضيق للغاية على مصالح الشركات، أما أنصار البيئة فيتهمونها برفع القيود التجارية بما يضر بالبيئة. وتزعم الإدارة الأمريكية وحلفاؤها أن المنظمة فشلت في التصدي للانتهاكات الصينية، والدول الغنية الأعضاء بها يتهمونها بالانحياز للدول النامية، من جانبهم تتهم الدول النامية المنظمة بأنه تم اختطافها من قبل الدول المتقدمة.
وتقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة ماجي والتر أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن، "الانتقادات التي توجه للمنظمة يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات رئيسة، أولها قدرة الدول الأعضاء على تحديد أنفسهم كدول نامية من أجل تلقي معاملة خاصة، وثانيها فشل عديد من الدول الأعضاء في الالتزام بقواعد المنظمة التي تحتم عليهم إبلاغها وإبلاغ الأعضاء الآخرين بشكل صحيح بشأن الإعانات الحكومية وفقا لقواعد اتفاقية محددة، وأخيرا اتهام هيئة الاستئناف بتجاوز صلاحياتها".
وتضيف الدكتورة ماجي، "كثير من تلك الانتقادات موجه إلى عدد محدود من الدول أبرزها بالطبع الصين، والمتهمة بالالتفاف حول قواعد المنظمة من خلال سلوك شركاتها المملوكة للدولة، وتبني سياسة الإغراق لإخراج خصومها من السوق، والتغاضي عن سرقات الملكية الفكرية، يضاف إلى ذلك أن هيئة فض المنازعات تقبل بحجة بعض الدول بانتهاك قواعد المنظمة تحت ذريعة الأمن القومي وهو ما يؤدي إلى تجاوزات تجارية من قبل بعض الدول الأعضاء".
تبدو المشكلة الحقيقية في منظمة التجارة العالمية مشابهة للمشكلات التي تواجه عديدا من المنظمات الدولية الكبيرة متعددة الأطراف. فمشهد التجارة العالمية تغير بشكل كبير على مدى الأعوام الـ25 الماضية، وعلى الرغم من ذلك فإن قواعد المنظمة لم تواكب هذا التغير، وتتطلب عملية تحديث المنظمة وضع مجموعة جديدة من القواعد للتعامل مع التجارة الرقمية والإلكترونية، كما سيتعين أيضا على الأعضاء التعامل بشكل أكثر فاعلية مع السياسات التجارية للصين، والآن ونتيجة وباء كورونا تحتل سياسة الإعانات الحكومية أهمية خاصة بعد أن باتت اتجاها عالميا من قبل الحكومات لتوفير الدعم الاقتصادي لشركاتها ومؤسساتها الاقتصادية.
من جانبه، يعتقد الباحث الاقتصادي تومبسون ريدجرايف أن إصلاح منظمة التجارة العالمية أمر ممكن لكن لا بد من وضع حل لما يعده القضية المحورية.
ويؤكد لـ"الاقتصادية"، أن غياب تعريف متفق عليه بين الدول الأعضاء لماهية الدول المتقدمة والنامية في منظمة التجارة العالمية، وترك الأمر بيد كل دولة على حدة لتحديد وضعها كدولة متقدمة أو نامية، يدفع بعض الدول إلى وصف أنفسهم بدول نامية والحصول على معاملة تفضيلية خاصة.
ويضيف، "فبلد مثل كوريا الجنوبية يعد وفقا لمنظمة التجارة العالمية بلدا ناميا، وهذا كان وضع كوريا الجنوبية بالفعل في سبعينيات القرن الماضي، ووفقا للاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية (الجات)، ولم تأخذ المنظمة التحولات الضخمة في الاقتصاد الكوري الجنوبي، وظلت تعدها بلدا ناميا، يضاف إلى ذلك مشكلات من نوع آخر أبرزها الحاجة الماسة إلى مزيد من الشفافية الداخلية".
ويصبح التساؤل ما الحلول المقترحة لهذه المشكلة؟ يشير الاستشاري السابق في منظمة التجارة الدولية واطسون ريتشارسن إلى الحاجة الماسة إلى نظام جديد لترقية البلدان من مرتبة البلدان النامية إلى حالة البلدان المتقدمة، مع درجة معينة من الامتيازات للبلدان التي تظل بلدانا نامية.
لكنه يبدو متشائما حيال قبول بلدان المنظمة بذلك. ويقول لـ"الاقتصادية"، "واقعيا لا يوجد احتمال جدي لوجود اتفاق جماعي بين الدول الأعضاء لتغيير النظام الحالي للمعاملة الخاصة والتفضيلية".
ويراهن واطسون ريتشاردسن على ما يصفه بعملية تطوعية من قبل البلدان المتقدمة، التي لا تزال توصف بأنها نامية، بإعفاء نفسها أو التنازل عن وضعها كدولة نامية على غرار ما قامت به البرازيل، مقابل دعم الولايات المتحدة لعضوية البرازيل في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
تلك المشكلة على أهميتها لا تعد المشكلة الوحيدة، بل يعتقد بعض الخبراء أن الفترة المقبلة ستشهد تصاعدا لمشكلة أكثر حدة وعدوانية بين البلدان الأعضاء خاصة بين البلدان المتقدمة وبعضها بعضا.
فقضية دعم الحكومات للمؤسسات والشركات المحلية تعد قضية شديدة التعقيد في الوقت الحالي خاصة مع تفشي وباء كورونا، إذ سيثار جدل كبير بشأن ما يعد دعما ضروريا لإنقاذ شركة أو مؤسسة ما من الانهيار الاقتصادي، وبين ما يعد دعما يسهم في تعزيز مكانة تلك الشركة أو المؤسسة في الأسواق الدولية، ويمكنها من التغلب على منافسيها، بما يعد سلوكا منافيا للمنافسة الحرة.
رغم هذا يتشكك كثير من الخبراء الاقتصاديين، من أن تؤدي تلك المشكلات، على الرغم من حدتها، إلى إقدام الولايات المتحدة وشركائها، الذين يتفقون معها في انتقاداتها لمنظمة التجارة الدولية، إلى اتخاذ إجراءات أحادية تؤدي إلى إضعاف المنظمة، فالدول المتقدمة لا تزال المستفيد الأكبر من المنظومة التجارية الدولية الراهنة، كما أن معظم التجارة الدولية تجري وفقا للالتزامات الخاصة بمنظمة التجارة العالمية التي تعهد بها الأعضاء، وإلغاء الاتفاقيات الدولية بسهولة يشكل خطرا على السلوك الدولي.
مع هذا يرى البروفيسور مارتن ماك كوراي أستاذ المنظمات الدولية في جامعة أكسفورد أن الخلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن نظم تسوية المنازعات في المنظمة، وكيفية تصرف هيئة الاستئناف، تعد الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلها.
ويقول لـ"الاقتصادية": لا يمكن تصور انهيار المنظمة نتيجة خروج دولة أو اثنتين من الدول النامية من عضويتها، ولكن يمكن تصور أن يؤدي فشل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في العمل المشترك معا، إلى إصابة المنظمة بشلل تام يترجم عمليا في توقفها إدارتها عن العمل، حتى إن حافظت على وجودها الاسمي أو الشكلي.
ويعد البروفيسور مارتن أن توافق الرؤية الأمريكية والأوروبية شرط ضروري لتقديم زخم يسهم في إصلاح المنظمة ودفعها للأمام، ولكن هذا التعاون لن يكون كافيا للنهوض بالمنظمة الدولية، في حال استمرار الصراع الأمريكي ــ الصيني محتدما دون حل جذري طويل الأمد.
ويضيف "فالصين أكبر دولة تجارية في العالم، وتجاهلها لن يكون واقعيا، ويتطلب الأمر منهجا جديدا للتفكير في التعامل بواقعية أكثر مع التغيرات التي حدثت في مجال التجارة في الربع قرن الماضي، هذا إذا أرادت المنظمة البقاء على حجر الزاوية في النظام الاقتصادي العالمي".

الأكثر قراءة