رغم تفوق الصين تجاريا .. طريق شاق أمام تحول اليوان إلى عملة دولية رئيسة
تعد سوق العملات أحد أهم الأسواق المالية عبر العالم، وإذا كان لكل دولة عملتها الخاصة، فإن بعض الدول ارتضت أن تتشارك في عملة واحدة كما هو الحال في منطقة اليورو، وعلى الرغم من تعدد العملات وتنوعها، فإن عددا قليلا للغاية منها يستخدم على نطاق واسع خارج اقتصاداتها الأصلية، بهدف تسهيل التجارة والتمويل الدوليين، ولهذا تعد تلك العملات أعمدة رئيسة في الاقتصاد الدولي، إذ تؤثر وتتأثر به بقوة.
اليوان الصيني أحد العملات المتداولة من قبل بنوك ومؤسسات في سوق الصرف الأجنبي العالمي. وفي العام الماضي تم تداول أكثر من 285 مليار دولار من اليوان الصيني يوميا في سوق الصرف الأجنبي العالمي. الرقم لا شك ضخم، لكنه لا يمثل إلا جزءا بسيطا من القيمة الإجمالية للعملات المشتراة والمبيعة يوميا عبر الاقتصاد الدولي.
وعلى سبيل المثال، وصلت التداولات التي تشتمل على الدولار الأمريكي إلى أكثر من 5.8 تريليون دولار يوميا في عام 2019، ليمثل الدولار بذلك أكثر من 88 في المائة من جميع معاملات سوق الصرف الأجنبي العالمي.
أسباب تفوق الدولار الأمريكي يفسره لـ"الاقتصادية" جورج اندروا المحلل المالي في بورصة لندن بالقول، "الحجم الكبير والاستقرار النسبي للاقتصاد الأمريكي، يعد العامل الرئيس وراء وضعية الدولار، يضاف إلى ذلك نظرة الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم إلى الدولار باعتباره مخزنا آمنا للقيمة، وأفضل وسيط للمعاملات بين العملات الأقل تداولا".
مع ظهور الصين كقوة اقتصادية عالمية تعزز موقع اليوان الصيني دوليا، ومنذ عام 2001 حتى اليوم نمت تجارة السلع في الصين بأكثر من تسعة أضعاف، لتكون الصين بذلك التاجر الأكبر عالميا، وبالطبع توسع استخدام اليوان في تداولات سوق الصرف الأجنبي عالميا من صفر تقريبا عام 2001 إلى 4.3 في المائة حاليا، مع هذا يظل اليوان ثامن أكثر العملات تداولا، رغم أنه احتل المرتبة الخامسة منتصف العام الماضي لبعض الوقت.
في الواقع تنتمي العملات الرائدة في العالم حصريا تقريبا إلى الاقتصادات المتقدمة، فاليورو يحتل المرتبة الثانية بعد الدولار، بينما يعد الين الياباني ثالث أكثر العملات تبادلا في العالم والعملة الآسيوية الأكثر استخداما.
وتتفوق العملة اليابانية على اليوان الصيني رغم أن حجم التجارة الخارجية للصين يزيد على نظيرتها اليابانية ثلاث مرات، بل إن اقتصادات لا تزيد تجارتها الدولية عن ربع التجارة الخارجية للصين تتفوق عملتها على اليوان مثل المملكة المتحدة على سبيل المثال.
ومع ذلك فإن الجنيه الاسترليني يتداول يوميا ثلاثة أضعاف العملة الصينية، وأستراليا التي لا تتعدى قيمة صادراتها ووارداتها 10 في المائة من تجارة الصين، تحتل عملتها المرتبة الخامسة باعتبارها أكثر العملات تداولا.
وخلال العام الماضي، مثلت العملات الخمس الأكثر تداولا في العالم (الدولار الأمريكي، اليورو الأوروبي، الين الياباني، الاسترليني البريطاني، والدولار الأسترالي) نحو 57 في المائة من جميع التداولات، وشكلت التبادلات بين الدولار واليورو وحده 24 في المائة من جميع التداولات.
بالطبع هناك مقاييس أخرى لقوة العملة، مثل احتياطيات النقد الأجنبي، ومن نحو 11 تريليون دولار إجمالي الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي التي احتفظت بها جميع دول العالم العام الماضي، كان أقل بقليل من 2 في المائة منها مقوما باليوان، ما يمثل زيادة طفيفة عن عام 2016 عندما كانت تلك النسبة 1 في المائة فقط، ويظل أغلب الاحتياطيات بالدولار، ويقدر بـ60 في المائة، يليه اليورو 20 في المائة.
من جانبه، فسر لـ"الاقتصادية" الدكتور إيه. إم. والش أستاذ الاقتصاد الدولي الوضعية الضعيفة لليوان في سوق العملات الدولية رغم التفوق التجاري الصيني بالقول، "الحساب الجاري للصين يتم تداوله بحرية منذ عام 2009، إلا أن حساب رأس المال لا يزال مغلقا إلى حد كبير مع تقييد التدفقات من والى الصين، وعلى الرغم من أن الصين أشارت إلى استعدادها لتحرير أسواق رأس المال الخاص بها، فإن وتيرة الإصلاحات لا تزال غير مؤكدة".
واعتقد الدكتور والش أن الميزة الرئيسة للعملة الدولية هي أنها تستخدم على نطاق واسع من قبل القطاعين الخاص والرسمي خارج البلد الأصلي للعملة، ويتطلب هذا عادة استخدام العملة وحدة حساب للفواتير التجارية، ووسيلة تبادل لتسوية التجارة والمعاملات المالية الأوسع نطاقا.
لكن القيود الصارمة على رأس المال تقيد تطور الأسواق المالية الصينية وتقيد حركة اليوان في جميع أنحاء العالم، فحساب رأس المال في الصين من أقل الحسابات انفتاحا في العالم، وعلى الرغم من إدراك السلطات الصينية أن تحرير ضوابط رأس المال من شأنه أن يسمح بتدفق أكبر لرؤوس الأموال من والي الصين، فانه سيعرض الاقتصاد الصيني لتقلبات اكبر.
بالطبع لا يبدو أن الصين سعيدة أو راضية على وضع عملتها دوليا مقارنة بتجارتها الخارجية. فالنجاح في تدويل عملتها الوطنية سيوفر لها عديدا من المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة والعملات الرئيسة الأخرى، وفي مقدمتها انخفاض تكاليف الاقتراض وتقليل مخاطر سعر الصرف، ألا أن هذا الوضع يتطلب منها أولا وقبل أي شيء تحرر أسواق رأس المال، وهو ما تبدو الصين غير مستعدة له بعد.
وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي للصين ينحاز لمزيد من تدويل العملة الوطنية، وذلك وفقا للخطة الخمسية الـ13، التي جاء فيها "الصين تهدف إلى تعزيز تداول اليوان بشكل مطرد ورؤية عملتها الوطنية تتحول إلى العالمية"، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك.
من جهته، ذكر وليامز بيست الباحث الاقتصادي في الشؤون الآسيوية أن هناك جانبين للمشكلة الجانب الأول يتعلق بالصين ذاتها، أولهما أن الرؤية الصينية بها بعض الاضطراب، ففي أعقاب الأزمة المالية عام 2008 أعرب المسؤولون في الصين عن مخاوفهم دون الإشارة إلى الدولار بشكل مباشر، وطالبوا بإنشاء عملة احتياطي دولي منفصلة عن الظروف الاقتصادية والمصالح السيادية لاي دولة بمفردها، وقبل أن تحصل وجهة النظر تلك على الزخم المطلوب أخذوا في الترويج بشكل نشط لاستخدام أكبر لليوان في الاقتصاد الدولي.
وأضاف بيست، أن الجانب الآخر يرتبط بالثقة الدولية، فالصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لكن ثقة المجتمع الدولي لا تزال أكبر بكثير في الاقتصاد الأمريكي والاقتصادات الرأسمالية عالية التطور مقارنة بالاقتصاد الصيني.
ويرى بعض الخبراء أن الصين أجلت نسبيا مساعيها لجعل اليوان عملة دولية، وذلك بعد أن أنشأت مراكز مقايضة في جميع أنحاء العالم مع بنوك مخصصة لإجراء الأعمال، وبذلت جهودا خاصة لبناء مراكز تداول لليوان في هونج كونج ولندن، ما أدى إلى ارتفاع عدد البنوك التي تتعامل بالعملة الصينية في العالم من 900 بنك عام 2001 إلى عشرة آلاف بنك حاليا، وإقامة منطقة حرة دولية في شنغهاي كمقدمة لعملية تحرير اقتصادي لتجارة العملات والتسويات المالية.
كما أنها اتخذت خطوات لتحرير تدريجي لوصول المستثمرين الأجانب لسوق الأسهم والسندات الصينية، ونجحت في إقناع عديد من الاقتصادات الناشئة بقبول اليوان جزءا من احتياطياتها الوطنية، إذ وقعت بين كانون الثاني (يناير) عام 2009 وآذار (مارس) الماضي اتفاقيات مبادلة للعملات مع 33 دولة، وساعدت بالطبع تلك الاتفاقيات على توسيع استخدام اليوان في التجارة، والأهم أوجدت صورة إيجابية حول العملة الصينية، ، لكن هذا الاتجاه لم يستمر طويلا.
وفي حديثه لـ"الاقتصادية"، رأى وليم دين الأستاذ المساعد لمادة التجارة الدولية في جامعة جلاسكو، أن ذلك يعود إلى أربعة أسباب، أولها سوق السندات الصينية مجزأة لأربع هيئات تنظيمية بينها صراع بيروقراطي واضح، وهذا يعني عدم تعظيم المنفعة المالية، يضاف إلى ذلك أن الاقتصاد الصيني لا يزال يعتمد على البنوك لخدمة احتياجات الصين الائتمانية بدلا من سوق السندات، وبالتالي سوق السندات تظل ضعيفة، وتضعف معها اليوان.
وأضاف قائلا "هناك أيضا تدخلات غير سوقية في الأسواق، وهناك تحكم في اتجاهات الشركات وهذا يمثل معوقا أمام تدفقات رأس المال، ويعزز ذلك الدعم الجاري لفرض سيطرة مركزية على الشركات المملوكة للدولة، كما أن النظام القانوني يخضع للسيطرة السياسية، ولذلك فإن المشاركين في الأسواق ليسوا واثقين بكيفية تسوية المنازعات "
وأوضح، أنه لا شك أن تلك العوامل تدفع بشكل كبير إلى إضعاف قدرة اليوان إلى أن يتحول إلى عملة دولية، ويكشف عن رغبة صينية لتدويله تدريجيا بدلا من أن يكون ذلك بشكل سريع وعاجل.
مع هذا يمكن القول إن مستوى الدين والشكوك حول نمو الاقتصاد الصيني مع جائحة كورونا، خاصة أن النمو الاقتصادي السريع قبل تفشي الفيروس كان يعتمد على اقتراض الشركات بكثافة من البنوك، يضاف إلى ذلك انخفاض الكفاءة في استخدام الدين، يجعل من الواجب على السلطات استخدام مزيد من القيود والضوابط المالية الصارمة باعتبارها إجراء احترازيا، ما يضعف القابلية الدولية لليوان كعملة دولية.
وفي هذا الإطار، قال الخبير المصرفي هاريس كولين إن "الصين تدرك تماما أنه مهما صعد شأن تجارتها الخارجية، فإن إزاحة العملات الرئيسة وتحديدا الدولار واليورو من الساحة أمر شبه مستحيل حاليا، لأنهما متأصلان بعمق في التجارة العالمية والأنظمة النقدية الحالية، وكوافد جديد نسبيا سيتعين عليها اكتساب ثقة المستثمرين والشركات والحكومات قبل توسيع مكانة عملتها دوليا".
وأضاف "يمكن للصين إذا اتخذت مجموعة من الإجراءات المتعلقة بفتح أسواقها المالية أن يمثل اليوان ما يراوح بين 10 و20 في المائة من الاحتياطيات العالمية بنهاية هذا العقد، خاصة إذا نجحت مبادرة الحزام والطريق التي يشير المسؤولون في الصين إلى أن أكثر من 50 دولة سترتبط اقتصاديا بتلك المبادرة ومن ثم بالاقتصاد الصيني وعملتها الوطنية".