Author

بماذا يفسر تخلف المجتمعات؟

|
يشهد العالم مناكفات، وملاسنات، وصراعا حميما بين الدول ذات النفوذ، والقوة الاقتصادية، والعسكرية والسياسية والإعلامية وقد لا يكون الصراع مسلحا، لكنه بالتأكيد شديد، وفي بعض الفترات يقترب من الصراع العسكري، ومرد الصراع أمور عدة يمكن إجمالها في الجانب العقدي، والاقتصادي، والسياسي، والثقافي، وقد تجتمع هذه العناصر في ظرف تاريخي لتشكل أس الصراع، رغم أن البارز على الساحة العالمية الجانب السياسي متمثلا في السعي إلى الهيمنة على العالم، أو جزء منه، وكذا الجانب الاقتصادي لغزو الأسواق، وجني الأرباح، مع أن البضائع مادية، أو معنوية تحمل في طياتها رسائل ثقافية، وعقدية.
في هذا السياق استوقفتني عبارة لداوسون وجيتي يقولان فيها: "الموروث الثقافي يحدد سرعة، واتجاه التغيير الاجتماعي، ويحدد ما هو التغيير الذي لا يمكن أن يحدث"، هذه العبارة في عمومها صحيحة إلا أن القبول بها كاملة، أو رفضها يتطلب تعريفا دقيقا للموروث الثقافي يتم بموجبه وضع النقاط على الحروف فيما يمكن عده موروثا اجتماعيا، وما لا يمكن عده كذلك.
بعض الكتاب والمثقفين يخلطون في كتاباتهم بين الدين وما يعرف بالموروث الثقافي، إذ يعبرون عن الدين بعده وجها من أوجه الثقافة، وجزءا منها، رغم أنه في الحقيقة أحد مصادر ثقافة الشعوب وهو أعم ولا يمكن الخلط بين عادات، وتقاليد لا يعلم مصدرها بالدين المحدد المصدر، خاصة الشرائع السماوية، فالدين يغرس العقيدة، والقيم المستمدة من التوجيهات الربانية، كقيمة الصدق، والأمانة، والعدل، والمساواة بين الناس في الحقوق، والواجبات، إضافة إلى طرق محددة في أداء العبادات، والشعائر، أما الموروث الثقافي، فرغم تأثيره في سلوك الناس، وتصرفاتهم إلا أن مكوناته عادة تكون بلا نظام ينسج بينها، وهذا عكس الدين الذي يمثل منظومة متكاملة تتعامل مع العقل والقلب، والمشاعر، والحواس، حيث تشكل تشريعاته وتوجيهاته موجهات أساسية للفرد والمجتمع، إذ لا يمكن القول، إن الشعر المصدر الوحيد للعادات والتقاليد والقيم التي يتوارثها الناس، ولا يمكن القول، إن القصص والأساطير هما مصدر ذلك، رغم أنهما قد يؤثران في المنظومة الثقافية في المجتمع.
الخلط بين الدين والموروث الثقافي من قبل البعض، إما جهلا أو عمدا، وفي كلتا الحالتين لا يعذر المرء وهو يتصدر للتأثير في ثقافة الناس، ومع الخلط المتعمد أشنع ودليل على خلط الأوراق كما يقال بهدف تحميل الدين ما ليس فيه، ولذا يتعمد البعض إرجاع تخلف بعض المجتمعات الإسلامية والعربية إلى الدين، رغم أنهم قد لا يصرحون بذلك ويستعيضون بمصطلح الموروث الثقافي كمظلة عامة، يتم من خلالها نقد الممارسات التعبدية بعدها عائقا يحول دون تطور المجتمع، كأن يرى الأعياد والمناسبات الدينية هدرا اقتصاديا مستشهدين بالأضاحي، في حين أن هذه المناسبة فيها نشاط اقتصادي هائل، ويتم فيها تبادل المنافع بين الشرائح الاجتماعية كافة.
بعض المفكرين الغربيين ومعهم بعض المسلمين في سعيهم إلى تفسير التخلف المادي الذي يعانيه المسلمون، يرجعونه إلى الدين بتوجيهاته وعباداته دون وعي منهم وإلمام بما يحث عليه الدين من سعي وعمل دؤوب لعمارة الأرض وجلب الرزق، "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"، "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله"، " وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه". هذه النصوص تؤكد أن قواعد الدين وتعليماته تمثل حوافز قوية ترفع من دافعية الإنسان لبناء ذاته وأسرته والإسهام في تطوير ورقي مجتمعه، ليتحقق بذلك الاكتفاء الذاتي للفرد والمجتمع على حد سواء.
من قراءة متأنية لبعض الكتابات وجدت فيها تشويها للنصوص وليا لأعناقها، أو استشهادا بحديث لم تثبت صحته ليثبت ميله ونزعته غير الموضوعية، لإثبات أن الدين عائق التطور والتحديث ما يفقد المؤلف أو الكاتب ثقة القراء وينفرون من طرحه، ولا يتم الوصول إلى الأسباب الحقيقية للتخلف.
إنشرها