Author

الأنظمة الجديدة والمنشآت الصغيرة ومفترق الطرق

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
كما أشرت في مقالات سابقة إلى أن إدارة الجودة في طريقها للاضمحلال، فلقد فشلت تماما في تحقيق استدامة المنشآت، والعجب كل العجب من كمية المبالغة في تضخيم أعمال جودة، وأجد عجبا أكبر في كمية المنشورات التي تجدها في المنظمات وهي تصور الرؤية والرسالة ومراحل فحص الجودة، منشورات ومصورات تذكرني بأيام الابتدائية عندما يتم إجبار الطلاب على تعليق جدولهم الدراسي وأسماء زملائهم في الفصل التي لن يقرأها أحد فتصبح دون قيمة مفهومة سوى تغطية جدار الفصل الذي عبثت به أيدي الطلاب وبقايا المعلقات السابقة. ولست هنا لأهاجم فكر الجودة فهو في طريقه للزوال والمسألة مجرد وقت، (فما تحدثت مع أحد إلا وجدته ناقما عليها)، ولكن المقال اليوم هو لتوضيح قضايا مرتبطة بمفاهيم الجودة ومؤشراتها البائسة وبما أسميه الإجراءات الرقابية الزائدة عن الحاجة، ويدخل ضمن هذا السياق التقنين والأنظمة الزائدة عن الحاجة.
سأوضح المسألة ببساطة متناهية جدا، تصور أنك تملك محلا صغيرا، وتضع فيه عاملا (سعوديا أو أجنبيا لا فرق)، أنت بحاجة إلى توفير وسائل رقابية من أجل ضمان دقة الأرقام التي ينتجها العامل (مثل المبيعات والمشتريات والمخزون) حتى تضمن أيضا عدم تلاعبه بها من أجل الاختلاس أو تغطية الفشل وعدم الإنتاجية، وتضمن فوق هذا كله صلاحية هذه الأرقام والبيانات للقرارات التي ستتخذها. من أجل هذا فإنك توظف أنظمة رقابية، مثل جهاز حاسب آلي مع ملحقاته وأنظمة محاسبية. هذه الأجهزة والأنظمة ذات تكلفة فالبرامج بحاجة إلى تحديث واشتراكات سنوية، والأجهزة إلى صيانة دورية، وأيضا تدريب العامل عليها، والسؤال الآن هو حجم الإيرادات والأرباح بعد خصم المصروفات الأخرى كافة، هل تبرر تكلفة الرقابة هذه؟ هل محل حلاقة صغير مثلا سيتحمل هذه التكلفة الرقابية؟ هذا ما أسميه الإجراءات الرقابية الزائدة عن الحاجة، ففي محل حلاقة صغير لا يقوم المالك عادة بتحمل هذه التكاليف بل يتحمل مخاطر عدم دقة المعلومات من خلال استبدال تكلفة الرقابة بالأرقام والبيانات المقارنة، فهو يقارن دخل محله بمحل مماثل له، وهذا يكفيه تماما.
الاقتصاد الكلي مركب من المؤسسات المتناهية في الصغر كافة، وتلك الصغيرة والمتوسطة حتى الكبيرة أو المتعددة الجنسيات، وكل هذه المؤسسات والمنظمات تواجه الظروف نفسها في تقدير حجم تكلفة الرقابة التي عليها تحملها، وهذا القرار مرده إلى حجم المخاطر التي تواجهها، فمخاطر فشل بيانات مبيعات محل حلاقة ليست كمخاطر فشل بيانات مؤسسة متوسطة الحجم وليست المتوسطة كالكبيرة، المخاطر هي التي تحدد حجم الإجراءات الرقابية. في محل الحلاقة فإن خطر فشل أرقام المبيعات على المحل ليس كفشل اتباع الإجراءات الصحية، الأول لا مبرر لتحمله والآخر لا مبرر لتجاهله. وعلى هذا نفهم أن الأنظمة التي تصدرها الدولة له تأثيرات كبيرة في تحديد تكلفة الرقابة على المؤسسات كافة.
الأنظمة التي تصدرها الحكومات تنتج نوعين من التكاليف الرقابية، تكلفة مراقبة تنفيذ النظام نفسه، وكلما زاد عدد الأنظمة ارتفعت على الحكومات تكلفة مراقبة تنفيذها، وإذا كانت هذه الأنظمة ذات إيرادات مثل رسوم أو غرامات ارتفعت أيضا تكلفة الرقابة عليها، ولو تمت دراسة ما حققته الأنظمة من نتائج مع ما تحملته الدولة من تكلفة في سبيل تنفيذها فإننا سنجد نتيجة محل الحلاقة نفسها تماما، بمعنى أن الأنظمة أوجدت إجراءات رقابية زائدة عن الحاجة فعلا، وأن تكلفة تطبيق النظام وصيانته تجعل منافعه قليلة، التكلفة الأخرى التي تتسبب فيها هذه الأنظمة هي تكلفة على المنشآت الاقتصادية التي تختص هذه الأنظمة بأعمالها، فكثير من الأنظمة تتطلب مقابلتها تكلفة إضافية على المنشآت، وإذا تعددت الأنظمة ارتفعت التكاليف بأكثر من حجم إيرادات المنشأة ومسؤولياتها، مثال ذلك تحمل المنشآت الصغيرة تكاليف الأمن والسلامة التي تفرضها أنظمة الدفاع المدني، وتتحمل أيضا تكلفة أجهزة التصوير كاميرات المراقبة التي يفرضها الأمن العام، وتتحمل تكلفة مقابل متطلبات ضريبة القيمة المضافة من أجهزة حاسب وأدوات تسعير، كما أصبحت الآن تتحمل تكاليف إضافية لتحمي نفسها من تهم التستر التي وضع النظام الجديد مسؤولية إثبات عدم التستر على عاتق صاحب المحل، وغيرها من تكاليف ورسوم للموارد البشرية والتأشيرات والرسوم البلدية، كل هذه الأنظمة تضع المنشآت الصغيرة أمام حزمة من الإجراءات الرقابية الضخمة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى فشل هذه المنشآت وخروجها من الأسواق، ومع خروج هذه المنشآت فإن تكلفة تطبيق الأنظمة تتزايد مع تناقص الإيرادات الحكومية الناتجة عنها وهو ما يؤدي إلى مشكلة اقتصادية ومالية عميقة.
المشكلة هي أن الأجهزة الحكومية تهتم بمؤشرات الأداء ذات الارتباط بالجودة وليس المخاطر، وهي مؤشرات غير سليمة، فمؤشر مثل إنتاج نظام معين لا يتحقق إلا بإنتاج النظام نفسه بغض النظر عن الآثار الخاصة به، مدى المخاطر التي يتعامل معها، وهل هناك أساليب بديلة لمعالجة المخاطر، هذه لا تتم مناقشتها بل الذي يهم الجهة الحكومية هو مقابلة مؤشر الأداء حيث إنها حققت المطلوب منها، وهذا الأسلوب كارثي على الاقتصاد، فكما أشرت فإن الآثار الاقتصادية بعيدة المدى لأي نظام لا يمكن معالجتها بسهولة، وليس من السهولة بمكان إعادة تشغيل الأنشطة الاقتصادية التي توقفت عن العمل والإنتاج وستكون تكلفة إعادة رؤوس الأموال إلى قدرتها الإنتاجية كبيرة جدا.
إنشرها