الأغذية المعدلة وراثيا خطر العولمة الزراعية
منذ اكتشاف الهندسة الوراثية أوائل عام 1983، قام العلماء بتعديل وراثي للمنتجات الزراعية من خلال حقنها بحامض نووي لميكروب نباتي، ما تسبب في تأخير نضجها والتحكم في مواسم زراعتها وحصادها وتغيير لونها وحجمها وتكاثر إنتاجها. إلا أن العلماء تمادوا خلال عام 1999 في إنتاج نوع من النباتات وتعديلها من خلال تلقيحها بحامض نووي من أصل حيواني، ما زاد علم التقنية الحيوية تعقيدا وأضاف قلقا بالغا لدعاة حماية البيئة ومنظمات الأغذية والصحة العالمية.
وتخوفا من انسياق العالم في ركب هذا التطور العلمي المفاجئ والمتسارع، وتحسبا للمخاطر التي قد لا تدرك إلا بعد زمن طويل، أصدرت مجموعة الدول الثماني الكبار في بيانها الختامي الصادر في أوكيناوا في اليابان بتاريخ 23 تموز (يوليو) 2000 قرارا حازما بضرورة تفويض الهيئة العالمية المسؤولة عن صحة الغذاء وطرق إنتاجه "كوديكس"، وتكوين لجنة من حكومات هذه الدول لدراسة موضوع استخدام الهندسة الوراثية وأثرها في صحة الإنسان والحيوان والنبات، وتقديم تقريرها في مدة أقصاها نهاية عام 2003. وأكدت الفقرة الـ 56 من البيان الختامي ضرورة وصول اللجنة إلى نتائج حاسمة ومقنعة ومدعمة علميا لتكون أساسا في التطبيق الدولي دون تمييز في حال التأكد من صحة أو ضرر هذه المنتجات على الكائنات الحية.
تضارب الحقائق العلمية بين مؤيد للأغذية المعدلة وراثيا ومعارض لها حدا بالعلماء في مختلف بقاع العالم إلى تقييم نتائج استخداماتها وتناولها. بادرت جامعة كورنيل الأمريكية بنشر نتائج دراستها بتاريخ 20 أيار (مايو) 1999 في مجلة نيتشر العريقة، لتؤكد فيها مقتل الفراشات الطبيعية بسبب تسممها من تناول الأطعمة الملاصقة لمحاصيل الذرة المعالجة وراثيا. وتبعتها جامعة أيوا الأمريكية في إصدار نتائج دراستها العلمية المنفردة بتاريخ 19 أيلول (سبتمبر) 1999، لتؤكد أيضا أن نسبة وفيات الفراشات الطبيعية التي تتغذى على طعامها الملاصق لمحاصيل الذرة المعالجة وراثيا تزيد بنسبة 70 في المائة على وفيات الفراشات التي تتغذى في المحاصيل الزراعية الطبيعية. وفي الاتحاد الأوروبي، أظهرت نتائج 19 دراسة علمية أن الأغذية المعدلة وراثيا كان لها أبلغ الأثر في الكيمياء الحيوية والأجهزة الأساسية للكائنات الحية التي تناولت هذه الأغذية. في الذكور كانت الكلى الأكثر تضررا بنسبة 43 في المائة، تليها الكبد في الإناث بنسبة 30 في المائة.
هذه النتائج حدت بمؤتمر سلامة الأغذية المنعقد في الأمم المتحدة إلى إصدار بيان في 23 تموز (يوليو) 2001، يؤكد فيه ضرورة مراعاة السلامة في الأغذية المعدلة وراثيا. كما اتفقت دول الاتحاد الأوروبي بتاريخ 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2001، على تطبيق عدد من الأحكام الصارمة، تلزم كل الدول بوضع بطاقات لاصقة تحتوي على معلومات واضحة لمكونات منتجاتها الزراعية، وإلزام المؤسسات التموينية والمطاعم العامة والخاصة بتحديد هذه المنتجات وتوفير المعلومات بشأنها حتى إذا كانت تحتوي على أقل من 1 في المائة من المواد المعدلة وراثيا. كما وضع الاتحاد الأوروبي غرامات قاسية على مستخدمي البيانات المغلوطة والموضحة في البطاقات الملصقة على صناديق الأغذية ومعلباتها.
وجاء الملحق الثالث من تقرير ضمان سلامة الأغذية وجودتها، الصادر أخيرا عن منظمة الأغذية والزراعة، ليؤكد أن سلامة الأغذية تأتي على رأس أولويات الصحة العامة في جميع دول العالم. وتعد الأمراض المنقولة بالأغذية بسبب كائنات ممرضة ميكروبية أو توكسينات بيولوجية وملوثات كيميائية تهديدا كبيرا لصحة آلاف الملايين من المستهلكين. وتلقي هذه الأمراض عبئا ثقيلا على نظم الرعاية الصحية وتقلل الإنتاجية الاقتصادية بدرجة ظاهرة.
وبسبب عولمة التجارة الغذائية وتكامل صناعات الأغذية وتلاحمها فيما بينها أخذت أنماط إنتاج الأغذية وتوزيعها تتغير بشكل مثير للاهتمام. فالأغذية والأعلاف أصبحت توزع على مسافات أكبر بكثير مما كان عليه الأمر من قبل، وبذلك تنشأ الظروف الملائمة لانتشار الأمراض المنقولة بالأغذية. وفي أزمة وقعت أخيرا حصل أكثر من 1500 مزرعة في أوروبا على أعلاف ملوثة بالديوكسين من مصدر واحد في مدة أسبوعين فقط. ووجدت الأغذية المشتقة من الحيوانات التي تغذت بهذه الأعلاف طريقها إلى جميع القارات خلال أسابيع.
واليوم، تؤكد جميع الاستطلاعات العالمية أن هناك نسبة كبيرة من شعوب العالم تعتقد بأن الأغذية المعدلة وراثيا خطر على الصحة. هذه النسبة فاقت 85 في المائة في السويد و66 في المائة في أستراليا ونيوزيلندا و60 في المائة في النمسا و57 في المائة في ألمانيا و48 في المائة في هولندا و39 في المائة في بريطانيا و38 في المائة في فرنسا، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 21 في المائة في أمريكا وكندا والبرازيل.
ونظرا لأن جميع الدراسات العلمية الموثقة دوليا أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن استهلاك الأغذية المعدلة وراثيا يؤدي إلى اختلال الأجهزة العضوية في الكائنات الحية، فقد نجحت المملكة في فرض حظر على دخول هذه المنتجات أسواقنا السعودية، مع إلزام جميع الدول بضرورة وضع الملصقات الخاصة على جميع منتجاتها الغذائية لتوضح نسبة تلوثها بالتعديل الوراثي، وذلك طبقا لقرار مجلس الوزراء السعودي رقم 85 وتاريخ 1 / 4 / 1412هـ، النابع من تطبيق أحكام المواد (2 - 5) من اتفاقية تدابير الصحة والصحة النباتية، والمادة (2) من اتفاقية العوائق الفنية أمام التجارة.
الموقف السعودي جاء معززا لوثيقة سلامة الأغذية الناتجة عن اتفاق 130 دولة مجتمعة في مدينة مونتريال في كندا، والصادرة بتاريخ 29 كانون الثاني (يناير) 2000، حيث نصت الوثيقة في الفقرة (8) من المادة الـ (11)، على أن: عدم توافر معلومات علمية محددة وموثقة بشأن الأضرار التي قد تنتج عن استخدام أو تناول المنتجات الغذائية المعدلة وراثيا لن يمنع الدولة أو يحد من سلطاتها في اتخاذ قرارات وقائية بشأن وارداتها من هذه الكائنات، وبشكل يمنع أو يخفف وطأة هذه الأضرار المحتملة. لذا يجب على الدول المصدرة لهذه المنتجات ضرورة تعريفها وتوفير المعلومات اللازمة لتوضيح محتواها وغايات استخدامها كغذاء أو أعلاف أو كمستلزمات إنتاج.