Author

الحالة اللبنانية ونكوص النكوص

|
كثيرة هي الأحداث التي تمر بنا، سواء كانت بسيطة أو كبيرة ومؤثرة ومعقدة في الوقت ذاته، إلا أننا لا نتوقف عندها، ونتأمل فيها لمعرفة تفاصيلها، والأسباب التي تحدثها وتقف وراءها، لتكون النتيجة خسارة الدروس الممكن الخروج بها من هذا الحدث أو ذاك، وربما السبب في أن طريقة تفكيرنا التي تربينا عليها في بيوتنا ومدارسنا تهتم بالشكل والظاهر، أو كما تعبر عنه مدرسة علم النفس الألمانية، المعروفة بـ "الجشطلت"، أي الصورة الكلية للشيء دونما اهتمام وسعي إلى معرفة التفاصيل والعلاقات التي تربط بين الأجزاء المشكلة لهذا الكل، وطبيعتها، وماهيتها، مثل أن ينظر المرء إلى سيارة لا أقول عابرة بل متوقفة، لكنه لا يتأمل في التفاصيل لمعرفة ما هو مصنوع من حديد، وما هو من بلاستيك، وما هو من زجاج، وما هو مطاط، وهل هي سليمة من العيوب، أم لا؟.
وجدت في تفجير مرفأ بيروت مثالا حيا أناقش ما قدر لي قراءته، ومشاهدته من صور، أو تحليلات للحدث من قبل الإعلاميين والسياسيين، ومن يمكن عدهم مفكرين استراتيجيين، إذ يشكل الحدث مادة دسمة لمعرفة كثير من المعطيات النفسية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية.
مفاجأة الحدث لعموم الناس في منطقتنا، والعالم، وليس لمن له علاقة بالحدث بصورة مباشرة، أو غير مباشرة أوجدت حالة من الغموض والضبابية، ما مكن بعض المحللين والسياسيين من رمي تصريحات وجمل لا تفك شفرة الحدث، إنما تزيد غموضه. وهذا تكتيك يخدم في النهاية من رسم سيناريو إخراج الحدث، ومن له علاقة به، أو من قد تطوله الآثار السلبية للحدث. ولعل خبر المفرقعات المخزنة في الميناء كان أول ما أريد توظيفه لحرف الأفهام عن السبب الحقيقي، لكن هذا الخبر سقط لهول الانفجار، والآثار التدميرية الناجمة على مسافات بعيدة، حيث العدد الكبير من القتلى والمباني المتهدمة والسيارات التالفة، وغيرها من ممتلكات الناس.
العنصر الثاني للتحليل، المرفأ، وحراساته، وإدارته، ومخازنه. ولعل ما ورد من أخبار بشأنه، يكشف خللا واضحا حيث تذكر الأخبار، والتصريحات أن إدارة المرفأ ليست لها سلطة الإشراف على المرفأ كله، إذ إن ميليشيا حزب الله لها مخازن خاصة بها، ولها حماياتها، ونقاط تفتيشها الدائمة. وتأكدت هذه المعلومة حين منعت الميليشيات التابعة للحزب قوى الأمن، والمخابرات، ووحدة المعلومات، وعناصر الجيش اللبناني من الاقتراب من مكان التفجير، وهذا يكشف علاقة الحزب بالتفجير، سواء كفعل، أو ملكية للمادة المتفجرة.
تكتيك اختزال الموضوع وحصره في الداخل اللبناني، برز من فريق لبناني واحد، تجمع بين أطرافه مصالح مشتركة، إذ تم رفض مشاركة فريق دولي للتحقيق في أسباب الانفجار من الرئيس عون، ويرى أن هذا مضيعة للوقت والحقيقة. وكذلك رفض الاقتراح من قبل وزير الداخلية، ورأى أن يقوم الجيش اللبناني بالتحقيق، علما بأن الميليشيات منعت الجيش من دخول موقع الحدث - العنبر 12 وما حوله -. فإذا كان الجيش ضعيفا لهذه الدرجة، فكيف سيحقق، ويعطي تقريرا موضوعيا؟.
تبسيط الموضوع وحصره في مستويات وظيفية متوسطة، كمدير جمرك الميناء، أو مدير الحماية، كلها محاولات للمحافظة على سمعة الرؤوس الكبيرة، ومصالحها، حيث قال عون، يجب التغيير في مصرف لبنان، ومفاصل المسؤولية في الدولة. والسؤال الجوهري ما علاقة مصرف لبنان بالتفجير؟ كما أن تصريحه بأن بيروت ستعود قريبا كما كانت من قبل، يؤكد التهوين من الموضوع، متناسيا الآثار النفسية لمن فقد أحبابه، أو جرح، أو خسر بيته، أو متجره، ليجد نفسه مشردا، أو فقيرا بعد غنى. كما أن من محاولات الالتفاف على الموضوع وتبسيطه، تصريح رئيس الوزراء، حيث دعا إلى الكف عن السجالات السياسية.
من التكتيكات التي مارسها الفريق الذي توجه إليه مسؤولية الانفجار، إنكار العلاقة الوظيفية والإشرافية على المرفأ. ولعل تصريح عون، بأنه ليست له علاقة حسب الدستور بالمرفأ، يكشف الخلل في إدارة الدولة، فالمسؤول الأول لا يمكنه التبرؤ بهذه الطريقة. أما خطاب حسن فكشف عن تكتيك الإنكار، حيث أنكر سيطرة ميليشياته على المرفأ، وأنكر وجود أسلحة ومخازن، وهذا يتناقض مع الواقع، حيث منعت الميليشيات دخول فرق إنقاذ مغربية، وهولندية، وبلجيكية مسرح الحدث، بهدف تغيير الواقع، وإخفاء الشواهد من مسرح الانفجار، وتتأكد مسؤولية هذا الفريق بخروج شاحنات من مكان الحدث بعد الانفجار، ووصول ثلاث طائرات إيرانية كما ورد في الأخبار، فبماذا خرجت الشاحنات، وماذا أنزلت، أو حملت طائرات إيران؟.
انفجار المرفأ وما تلاه من ردود فعل شعبية تمثلت في توجيه النقد الحاد للطبقة الحاكمة -"ائتلاف عون" و"حزب الله"- كما أن الالتفاف حول ماكرون عند زيارته المناطق المنكوبة، وتقديم عريضة لعودة الاستعمار الفرنسي، تكشف حالة الإحباط المتراكمة منذ عقود، وعدم الثقة بالطبقة الحاكمة المتهمة بالفساد التي حولت لبنان من وردة إلى بلد يفتقد الخدمات، ما أحدث حالة نكوص وحنينا لزمن الاستعمار، ولو لدى البعض، وهذا مؤشر خطير.
إنشرها