عندما يكون إطفاء الحرائق مشكلة
يشتهر في ممارسات الأعمال ما يطلق عليه "إطفاء الحرائق" FIREFIGHTING، وهو توصيف ساخر للإدارات التي تدير أعمالها بالتعامل مع الواقع "بعد" حدوثه، خصوصا الأحداث السلبية منه مثل، نتائج الأخطاء والمعلومات التي تعالج أخيرا، وسوء الفهم الذي يتم تجاهله في بدايته، والتعارضات المعلقة التي لا يحلها أحد وما إلى ذلك. جل ما يهتم وينشغل به الموظفون، هو إطفاء الحرائق الصغيرة والمنتشرة هنا وهناك، بالنسبة لهم هذا عمل يومي مزعج لا يرون معه أي أفق لتصحيح الأمور. يحدث مثل هذا الأمر عند ضعف التخطيط والترتيب واختفاء المعالجات السليمة والكاملة. وإذا وضعنا الهدر التشغيلي إلى جانب ممارسات إطفاء الحرائق - إذ دائما ما يترافقان سويا - نجد أن النتيجة هي منشأة مهترئة تشغيليا تكون عرضة للسقوط تحت الضغط المفاجئ أو مع الضغط المستمر لفترة طويلة.
كيف يحدث هذا الأمر؟ تظهر ممارسات إطفاء الحرائق - المكلفة جدا - على السطح عندما تفقد قيادة المنشأة قدرتها على تصميم الأعمال ونماذجها وإدارة ممارساتها بشكل مدروس ومقنن، أو تغفل عن ذلك وتتلهى بما تعتقد أنه أهم. كثيرا ما يحدث هذا عندما تفقد الإدارة بوصلتها وقدرتها على ضبط تزامن النمو في الأعمال مع النمو التنظيمي. وخير مثال على ذلك الفريق المتحمس، الذي يتقدم في عقد الصفقات وتمكين المنشأة من الوصول إلى الموارد البشرية والمادية الثمينة، ولكن يغفل ويتكاسل عن إحداث التقدم نفسه على المستويين التنظيمي والتشغيلي. مع الأسف يعتقد كثير من القادة، أن طريقة عمل الأشياء وتناغمها مجرد تحصيل حاصل للإنجازات، وترافقها بشكل طبيعي، وهذه مغالطة موجودة عند كثير من الإداريين. إذا لم يحصل الإعداد المبكر وينال منهم الاهتمام الكامل، ويعمل الفريق التنفيذي كضابط توازن بين الأعمال وما تستحقه من دعم، سيصل العمل بلا شك إلى مرحلة يصبح معها التنظيف أو الإصلاح أو التجديد عملية مكلفة جدا، ناهيك عن أن هذه الظروف هي التي تصنع المشكلات وتضخم الأخطاء.
في مثل هذه الظروف يصعب التحقق من أسباب المشكلة، لسببين. الأول، لا يكفي الوقت للتحقق والتحري، فالواقع وظروفه أكثر إلحاحا وهم دائما في وضعية التعويض والتجاوز والتصحيح السريع وليس الفهم والتعلم والتصحيح الدائم. الآخر، لأن محاولة اكتشاف مصدر الخطأ ستصل إلى إحدى نتيجتين: الجميع مخطئون أو لا أحد مخطئ! فالإجراءات لم تكن ملائمة، والبيئة ضعيفة، والظروف صعبة ومتغيرة. وهذه كلها مجرد تبريرات واهية لأخطاء مباشرة لفريق الإدارة المسؤول، الذي تغاضى عن البناء الجيد ولم يحرص على بناء الهيكل والأدوات الملائمة للقيام بالعمل بالشكل الملائم.
تكبر المصيبة إذا علمنا، أن هذا الإهمال الجسيم من الفريق الإداري لا يصنع منشأة ضعيفة فقط، فهو يعد تلاعبا بحقوق الملاك، لأن أحدهم غير من قائمة أولوياته وتخلى عن مسؤولياته، ولم يتحمل ما أؤتمن عليه بالشكل السليم، مع أنه يتسلم مكافآته بالكامل وصورته دوما ملمعة، إن لم تكتب عنه المجلات والمواقع: القيادي الفذ. ومثل هذا لا يصعب عليه صنع الوهم واختلاق التبريرات لأن الشفافية ضعيفة ولا أحد - فعليا لا أحد - يعرف ما يكفي من التفاصيل للخروج باستنتاج مختلف أكثر صحة مما يدعيه الفريق الإداري.
المصيبة الأخرى التي ترافق هذه الممارسات هي حرق المواهب. مثل هذه البيئات تكون مخادعة بشكل كبير. فظاهرها الصفقات والتدشينات وربما المباني الجميلة والمرافق الضخمة، ولو نظرنا إلى كل هذا مع النمو الواضح سنجد أنه من الصعب جدا على من خارج المنظمة اكتشاف هذه المشكلة قبل دخولها. لذا تستهدف هذه المنشآت من المواهب الشابة، ويأتون من كل مدينة وجامعة بحثا عن فرصة اكتساب الخبرة والتعلم والنمو. ولكن عوضا عن ذلك، تسقط الموهبة في فخ إطفاء الحرائق والممارسات السيئة، فتصبح تجيد مهارات مختلفة عن تلك التي كانت تستحقها. ستجد الشاب يعرف كيف يتفادى أن يثبت عليه شيء، حذر جدا عندما يكتب بريدا إلكترونيا، يعرف كيف يعالج المشكلة في وقت سريع وبأقصر الحلول ولكن بشكل مؤقت، من باب الكنس تحت السجاد. وربما تعلم واعتاد كتابة الخطابات بتواريخ قديمة لتغطية إجراء لم ينفذ، وقام بعملية تنظيف الملفات فقط قبل مراجعتها. مثل هذا، كان يجب أن يتعلم كيف يصمم الإجراءات ويعمل بإبداع ويبحث عن الجودة. مثل هذا كان يجب أن يندمج في بيئة تقوم على الثقافات التحسينية والبحث عن مواطن تقوية الإجراءات وتآزر الإدارات.
ثقافة التميز والقوة المؤسسية تختلف تماما عن ثقافة الهدر وإطفاء الحرائق. وشتان ما بين الاثنين في بناء القيمة وصنعها لجميع الأطراف، الموظفين والمساهمين والمجتمع. من العجيب الذي رأيته أن هناك من القادة من يشعرون بالترفع عن النزول - كما يرون - للأعمال الإدارية التطويرية. فهم يرون أن ذلك عملا مهما ولكن ينبغي ألا ينشغل فريق الإدارة العليا به، مبررين ذلك بالنظر إلى أمور أكثر أهمية.