Author

عقلية المبتكر في خمس خصائص

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

حديث الابتكار حديث مستمر لن ينتهي طالما شاء الله تعالى للإنسان أن يبقى فوق هذه الأرض الحافلة بالموارد والمحفزة للتأمل والتفكر والتدبر. يكتسب الإنسان المعرفة، ويطلق مزيدا منها، عبر تفاعله مع الطبيعة من حوله. ولا يظهر الأثر الفاعل لهذه المعرفة إلا عندما تكون حية، قابلة للتطبيق وتقديم قيمة تستجيب لمتطلبات الإنسان القائمة، أو تحرض متطلبات كامنة لديه، لتعطي من خلال ذلك فوائد اقتصادية أو اجتماعية أو إنسانية أو ربما ثقافية أيضا. هذه "المعرفة الحية" هي جوهر "الابتكار"، وهي التي تتسابق على الحظوة بها المؤسسات والدول في هذا العصر، فالقيمة التي تحملها تفعل التنمية على مختلف محاورها. كما أن التجدد في هذه المعرفة، وتواصل جلب مزيد منها يعزز استدامة هذه التنمية، وذلك هدف تسعى إليه جميع "الوحدات الاستراتيجية" في الحياة سواء كانت على مستوى الإنسان الفرد، أو المؤسسة، أو الدولة، أو ربما العالم بأسره.
يرتبط الابتكار بعقل الإنسان، أو لعلنا نقول "بمنظومة عقل الإنسان"، فالعقل ليس معزولا عن التأثر والتأثير بتكوين الإنسان المادي والمعنوي، حيث هناك القلب والمشاعر، وهناك الطموح والخيال، وهناك أيضا أمور أخرى في شخصية الإنسان. منظومة العقل هذه ملكة متع الله بها كل إنسان. تستطيع هذه المنظومة الابتكار عبر البحث عن حلول لمشكلات مطروحة، أو الاستجابة لمتطلبات مرغوبة، أو ربما فتح آفاق جديدة تقدم معطيات متميزة غير مسبوقة، تحمل قيمة، وتسهم في مجال أو أكثر من مجالات الحياة. يقدم هذا المقال حديثا في الابتكار، التركيز فيه على "خمس خصائص" رئيسة يجب أن يتحلى بها "المبتكر"، أو بالأحرى يجب بناؤها في المبتكرين، وهؤلاء هم جميع الناس، لأن كل فرد يمكن أن يكون مبتكرا إذا سعى إلى امتلاك الخصائص المناسبة.
ترتبط الخاصية الأولى من الخصائص الخمس بثلاثة عوامل رئيسة. أول هذه العوامل هو عامل "الوعي" بأهمية الابتكار والمعرفة الحية القابلة للتطبيق وتقديم قيمة في شؤون الحياة المختلفة، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو غير ذلك. أما العامل الثاني فهو عامل "المسؤولية"، الذي يقضي بالاهتمام الشخصي بالابتكار والسعي إلى الإسهام فيه. ويأتي بعد ذلك عامل "السلوك" المرتبط بالابتكار، والمقصود هنا "الجانب الأخلاقي" من الابتكار، حيث يجب أن تبتعد القيمة التي يقدمها هذا الابتكار عن "الضرر"، كي يكون عطاؤه "خيرا" للجميع يسهم في تفعيل التنمية وليس في إعاقتها.
ونأتي إلى الخاصية الثانية التي تهتم "بالتعرف على التميز الشخصي". وهناك، في هذا المجال، كتاب ذكرناه في مقالات سابقة عنوانه "العنصر The Element" وضعه "كين روبنسون Ken Robinson" أحد مشاهير خبراء التعليم. والكتاب حصيلة ملاحظات وبحوث أجراها الكاتب، حيث تقول معطيات هذه البحوث، إن لدى كل فرد ودون استثناء تميزا شخصيا، فإن تم اكتشاف هذا التميز، وجرى تفعيله في دراسته وحياته الشخصية وعمله المهني، فإن صاحبه مرشح لأن يكون أكثر عطاء، وأكثر رضا وسعادة، لأنه يعيش تميزه الذي يتفوق فيه. وعلى ذلك فإن على كل إنسان، خصوصا صغار السن ومن هم في مراحل الدراسة، أن يحاول اكتشاف تميزه، وأن يسعى إلى تنمية هذا التميز، وأن يلقى البيئة المناسبة التي تشجعه على ذلك، وتقوم برعايته في ذلك أيضا.
الخاصية الثالثة هي "الجاهزية المعرفية"، وتتعلق هذه الخاصية بسابقتيها أي "بالوعي والمسؤولية والسلوك"، إضافة إلى "التميز الشخصي". وتتركز هذه الخاصية على شؤون "المعرفة"، أي منطلق "الابتكار" المأمول. ترتبط هذه الخاصية بثلاثة عوامل رئيسة هي، الحماس للمعرفة، والشغف في البحث عنها، والجهد الذي يبذل في ذلك. ولهذه العوامل أهمية ليس فقط في الاستجابة المدرسية أو المهنية، بل في الهواية الشخصية أيضا. ولعل الأمر يكون أكثر فاعلية عندما تتوافق المعرفة المستهدفة مع التميز الشخصي.
وننتقل إلى الخاصية الرابعة التي ترتبط بتطوير "الحالة الذهنية" نحو تعامل أفضل مع "المعرفة" يتمتع بإيجابية أكبر ومرونة أعلى. في هذا المجال، يبرز كتاب "الذهنية Mindset" الذي ألفته "كارول دويك Dweck" الأستاذة في جامعة ستانفورد الشهيرة. يدعو هذا الكتاب إلى عدم الاستسلام "للذهنية الثابتة Fixed Mindset" والسعي إلى اكتساب "الذهنية النامية Growth Mindset". ويرى الكتاب أن "الذهنية الثابتة" تكتفي بما لديها وما عليها، وتخشى الإقدام على طرح الأفكار الجديدة، ومناقشتها واختبارها، والتجربة والخطأ فيها، وأن هذه الذهنية في الأغلب ما ترتبط بمخرجات المدارس، وأنها غير مناسبة للمستقبل المأمول. ويدعو الكتاب، بناء على ذلك، إلى مناهج دراسية تهتم ببناء "الذهنية النامية" التي تسعى إلى اكتساب مزيد من المعرفة، وإلى إبداع مزيد منها، والبحث عن قيمة تعطيها، بما يؤدي إلى تفعيل الابتكار، وتعزيز الاستفادة منه.
ونصل إلى الخاصية الخامسة التي تهتم "بالشراكة المعرفية" كوسيلة لاكتساب مزيد من المعرفة وإطلاق العنان لتوالد المعارف واختيار المفيد منها لتفعيل الابتكار وتعزيزه. ولعله من المناسب هنا ذكر قول في الشراكة المعرفية للكاتب الراحل "جورج برنارد شو George Bernard Shaw"، والقول هو، "إذا كانت لديك تفاحة ولدي أخرى وتبادلناهما، فلن تتغير الحالة، سيبقى لكل منا واحدة، أما إذا كان لديك فكرة ولدي أخرى وتبادلناهما، فإن الحالة ستتغير ليصبح لدى كل منا فكرتان، والأمر مرشح للمزيد عبر تلاقح الفكرتين في ذهنينا. فمزيد من الأفكار يعزز الابتكار بالمصادر التي تغذيه ويفعل عطاءه وإسهامه في التنمية.
وفي الختام، هذه دعوة موجهة إلى كل إنسان، خصوصا أولئك في فترة النشأة والتأهيل، أن يعد نفسه ليكون إنسانا مبتكرا يقدم أفكارا تحمل قيمة تعزز التنمية اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا وثقافيا. ولعل الخصائص المطروحة في هذا المقال تساعده على ذلك، فهي تريده، "واعيا معرفيا ومسؤولا وحسن السلوك، استطاع التعرف على عنصر تميزه، ويركز على المعرفة حماسا وجهدا، ويتمتع بعقلية نامية، وقدرة على التعامل مع شراكات معرفية مفيدة". ولا شك أن على الجهات المحيطة والمؤثرة في مسيرته أن تكون داعمة لكل ذلك.
إنشرها