قلب الصناعة الأمريكية يتآكل.. شركات السيارات الأجنبية تكسر هيمنة «الثلاثة الكبار»
تعد السيارة جزءا أصيلا وعميقا ومهما في ثقافة وتاريخ الولايات المتحدة، وعند النظر إلى التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة، فإن صعود وهبوط الاقتصاد الأمريكي ومكانتها باعتبارها أكبر قوة صناعية في العالم ارتبطت في الأغلب بصناعة السيارات.
وفي بلد يعتمد سكانه على السيارات بشكل كبير في حياتهم اليومية، فإن الولايات المتحدة فرضت سيطرتها الإنتاجية في الأعوام الأولى لتلك الصناعة الوليدة، ومنذ مطلع القرن الـ20 حتى ثمانينيات القرن الماضي، كانت أمريكا وبدرجة كبيرة مقارنة بمنافسيها تحتل المرتبة الأولى كأكبر منتج للسيارات.
وعلى الرغم من بدايات القرن الـ20 شهدت منافسة كبيرة بين الشركات الأمريكية في مجال تصنيع السيارات، إلا أن المنافسة سريعا ما تلاشت، وانحصرت في ثلاث شركات كبيرة ومهمة.
بحلول نهاية العقد الثاني من القرن الماضي كانت شركة جنرال موتورز وكرايسلر وفورد تهيمن على السوق الأمريكية، ومع الكساد الكبير نجحت الشركات الثلاث أو ما بات يعرف بالثلاثة الكبار في فرض هيمنتها شبه التامة على صناعة السيارات الأمريكية.
كانت شركة فورد أقدم الشركات الثلاث قد أسست عام 1903 على يد هنري فورد أحد الرواد الأوائل في تلك الصناعة. اشتهرت الشركة بفلسفة إنتاجية خاصة بها قائمة في جوهرها، على إنتاج سيارات بسيطة غير مكلفة لأكبر قطاع ممكن من المستهلكين.
أعوام معدودة وتحديدا عام 1908 وكانت شركة جنرال موتورز تظهر للعلن، وسريعا ما أفلحت في الاستحواذ على عدد من الشركات الأصغر التي كانت أيقونات في تلك الصناعة وأبرزها بالطبع كاديلاك وبويك، وباتت الشركة أكبر شركة تصنيع سيارات في العالم، وتميزت بابتكاراتها وقدرتها على إنتاج سيارات تلائم أذواق عديد من الطبقات الاجتماعية مع اختلافات سعرية، وهو ما ربط إلى حد كير السيارة بالمكانة الاجتماعية كقيمة.
أما شركة كرايسلر فقد تأسست عام 1920 على يد والتر كرايسلر المدير التنفيذي في جنرال موتورز، ونتيجة لخبرته استطاعت الشركة ترسيخ أقدامها في عالم صناعة السيارات.
سيطر الثلاثة الكبار على الصناعة لعقود، وتجاوزوا منافسيهم، لكن بحلول ستينيات القرن الماضي، بدأت تلوح في الأفق بعض الصعوبات والتحديات، وبدأ الحديث عن البيئة وأنظمة السلامة آخذا في التزايد.
في السبعينيات أصبحت السيارات الأجنبية خاصة تويوتا اليابانية وفولكسفاجن الألمانية بدائل شائعة للسيارات الأمريكية.
مثل قرار الدول العربية المنتجة للنفط بقيادة الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1973 بقطع إمدادات النفط عن الدول الغربية ومنها الولايات المتحدة نقطة تحول في تاريخ صناعة السيارات الأمريكية، إذ أدى إلى تدخل حكومي أكبر لتنظيم الصناعة، مع التركيز على معايير كفاءة استهلاك الوقود، لكن هذا لم يمنع المشكلات من الاستفحال خاصة بعد هيمنة السيارات الأجنبية وتحديدا اليابانية الفاخرة على السوق.
وفي الثمانينيات انتعشت الشركات الأمريكية الثلاثة مرة أخرى جراء انخفاض في أسعار النفط، وسعت إلى الاستثمار في شركات السيارات الأجنبية للحد من منافستها، لكن التسعينيات كشفت تراجع منتجي السيارات الأمريكية بعد أن بدأ المنافسون الأجانب في إنشاء مصانع لإنتاجهم في الولايات المتحدة.
ويصف مات سميث المهندس الاستشاري في شركة فوكسهول للسيارات وضع صناعة السيارات الأمريكية في مطلع الألفية بالقول، "استمرت مسيرة التراجع وبلغت الصناعة أدنى مدى. ووجهت الأزمة الاقتصادية عام 2008 ضربة مؤلمة لصناعة السيارات في الولايات المتحدة، وبينما خرجت "فورد" سليمة نسبيا، فإن "كرايسلر" أعلنت إفلاسها وهيمنت عليها شركة فيات، وهمشت تماما جنرال موتورز".
انتهت أسطورة الشركات الثلاث الكبرى، وتآكلت هيمنتها على الأسواق الأمريكية، واستمرت الشركات الأجنبية في التمدد في الداخل الأمريكي، وتراجع التصنيع المحلي، لكن هذا التراجع لم يمنع كثيرا من الاقتصاديين إلى التعويل على إمكانية النهوض مجددا بصناعة تعد في قلب الهيكل الاقتصادي – الصناعي الأمريكي.
لكن تلك الرغبات وإمكانية تحقيقها لا تزالان محل جدل في الولايات المتحدة، ويظل التساؤل مطروحا هل يمكن بالفعل النهوض مجددا بصناعة السيارات في الولايات المتحدة.
بوصول الرئيس ترمب إلى سدة السلطة عام 2016 استبشر البعض خيرا بقدرة صناعة السيارات الأمريكية على استعادة بريق الماضي. الاستبشار بالخير كان منبعه أن السياسات الحمائية للرئيس الأمريكي ستمكن صناعة السيارات الأمريكية من استعادة سوقها الداخلية بقوة، بعد تراجع منافسيها من الشركات الأجنبية.
لكن الواقع جاء بخلاف ذلك، فشركات السيارات الأمريكية كانت في مقدمة منتقدي الرئيس ترمب، حتى ما بدا لكثيرين أنه قرار سيحظى بتأييد تلك الشركات، والمتمثل في خطط البيت الأبيض، في خفض معايير "الوطنية " في خفض تكاليف الإنتاج، ومن ثم تجاوز واحدة من العقبات الكبيرة أمام منافسيها، حتى تلك الخطط لم تلق ترحيبا من 17 شركة كبرى لصناعة السيارات أمريكية وغير أمريكية، ووقعوا جميعا رسالة لسيد البيت الأبيض، وصفوا فيها خطته بأنه "لا يمكن الدفاع عنها".
وفي الواقع فإن السبب في ذلك أن ولاية كاليفورنيا لديها معايير أكثر صرامة بكثير فيما يتعلق بمعايير الانبعاثات، وهو ما يعني أن شركات السيارات في الولايات المتحدة، كانت ستواجه مجموعتين من القواعد المختلفة داخل الولايات المتحدة، وسينعكس ذلك سلبا على قدرتها الإنتاجية.
وهو ما جعل رؤساء مجالس إدارات تلك الشركات يطالبون بقرار نهائي يقع في منتصف المسافة بين رغبات الرئيس ترمب والوضع القائم.
زادت الحرب التجارية بين واشنطن ومنافسيها الدوليين خاصة في الاتحاد الأوروبي والصين، الطين بلة.
يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور سايمون مارك أستاذ الاقتصاد الأمريكي في جامعة جلاسكو، "الحرب التجارية أدت إلى ارتفاع عديد من مكونات إنتاج السيارات، ومن ثم ارتفعت التكلفة الإنتاجية، ورد الفعل تمثل في تباطؤ المبيعات وانخفاض الربحية".
ويضيف "تقديرات جيم هاكيت الرئيس التنفيذي لشركة فورد أن التعريفات الجمركية التي فرضها ترمب، إذا استمرت فإن صناعة السيارات الأمريكية قد تتعرض لخسائر تتجاوز مليار دولار خلال عامي 2020 و2021، بسبب الزيادة الضخمة في أسعار الفولاذ المستورد، وتقدر الزيادة في الأسعار بين ستة و30 ألف دولار على السيارات المنتجة في الداخل الأمريكي".
وجاءت جائحة كورونا جاءت لتعيد التساؤلات السابقة إلى الواجهة من جديد. ما مستقبل صناعة السيارات الأمريكية؟
الباحث إل. دي تشارلز من اتحاد منتجي السيارات البريطانية يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا، "صناعة السيارات مكون مهم للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة مع روابط واسعة النطاق عبر النسيج الصناعي. أسهمت الصناعة تاريخيا بنحو 3 - 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العام، وفي مجال العمالة توظف بشكل مباشر 1.7 مليون شخص، وتسهم في التأثير الصافي في التوظيف في الاقتصاد الأمريكي لما يقرب من ثمانية ملايين وظيفة، ويجني العاملون في تلك الصناعة أكثر من 500 مليار دولار سنويا، ويولدون أكثر من 70 مليار دولار من عائدات الضرائب".
ويضيف "تنفق الصناعة ما بين 16 و18 مليار دولار سنويا على البحث والتطوير، أما بالنسبة للتمويل الذاتي فإنه يقدر بـ99 في المائة، ونظرا لاستهلاكها منتجات عديد من قطاعات التصنيع الأخرى، فإنها تعد المحرك الرئيس لمساهمة التصنيع 11.5 في المائة في الناتج المحلي الإجمالي".
ويشير إلى أن انعكاسات تفشي فيروس كورونا على مبيعات السيارات في الولايات المتحدة كانت سيئة للغاية، حيث إن مبيعات آذار (مارس) وهو الشهر الكبير في الربع الأول من العام، انخفضت 32 في المائة مقارنة بالعام الماضي، وتلك هي أدنى نسبة في الولايات المتحدة منذ كانون الثاني (يناير) 2014، ومبيعات الربع الأول من هذا العام ستنخفض 11.8 في المائة، وهذا أقل ربع منذ 2012.
ويؤكد أنه سيكون هناك حاجة ماسة إلى دفعة قوية من قبل الإدارة الأمريكية لدعم صناعة السيارات لاستعادة أوضاعها السابقة قبل الجائحة، وهي لم تكن أوضاعا عظيمة على أي حال.
الأمر المؤكد أن هناك عددا كبيرا من التحديات التي تواجه صناعة السيارات الأمريكية، وإذ يستبعد كثير من الخبراء قدرة الصناعة على استعادة ماضيها الذهبي، فإنه يجب العمل على وقف اضمحلالها على الأقل، وهو ما يتطلب التكيف مع المتغيرات الجديدة في الأسواق.
ويقول لـ"الاقتصادية"، توماس كريج رئيس قسم التحليلات السابق في مؤسسة أكسفورد للتحليلات، "بعيدا عن الانتكاسات الراهنة لصناعة السيارات الأمريكية نتيجة جائحة كورونا، فإن التطوير طويل الأمد سيعتمد على مزيد من الشراكة الدولية مع شركات السيارات الدولية الأخرى، فالمفاهيم الاستقلالية للصناعة، التي سادت في عقود سابقة، لم تعد هناك إمكانية لتبنيها".
ويضيف "ربما تفلح في تحقيق نتائج طيبة في مجال السيارات الكهربائية، لكن الطريق أمام السيارات الكهربائية لتكون سيارة المواطن الأولى لا يزال طويلا بعض الشيء، حتى يتحقق ذلك على شركات السيارات الأمريكية تبنى مزيد من الاندماج والتعاون مع نظيراتها في أوروبا واليابان والصين، هذا هو الطريق للحفاظ على نسبة جيدة من السوق".