أخبار اقتصادية- عالمية

ما بعد الجائحة .. ملامح جديدة للاقتصاد العالمي

ما بعد الجائحة .. ملامح جديدة للاقتصاد العالمي

من المؤكد أن عالم ما بعد كورونا سيختلف في كثير من المناحي عما قبله، فالخسائر المالية الضخمة، وعمليات الإغلاق، وتقييد الحركة، جميعها مثلت تحديات غير مسبوقة على الأقل من حيث المدى والعمق للبشرية جمعاء، ولا شك أنها ستدفع عديدا من الحكومات والدول وحتى الشركات والأفراد إلى إعادة النظر في سلوكهم الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا لتفادي تكرار هذا المشهد ومصاعبه مرة أخرى.
لا يمتلك أحد إجابة قاطعة عما ستكون عليه ملامح المرحلة المقبلة، وتفاصيل الصورة الاقتصادية المقبلة، بل إن تساؤلات كبرى تجاه المستقبل الاقتصادي باتت الآن مثار جدل ونقاش حاد، فإلى أي مدى أثبت النظام الرأسمالي قدرة وفاعلية في التعامل مع الأزمة.. هل ستتراجع العولمة وتنتصر الحمائية الاقتصادية، أم أن طبيعة الوباء وسرعة انتشاره ونطاقه أثبتت أنه بدون تعاون عالمي فإن الخطر محدق بالجميع، وما موقع الدولة في المرحلة المقبلة، وهل سنشهد تناميا في دور المؤسسات ذات الطبيعة الكونية أم أن الدولة ستظل حجر الأساس في النظام العالمي، هل سيشهد العالم تحولا في أقطابه الاقتصادية الراهنة، وكيف ستنعكس جائحة كورونا على الدور الصيني المتصاعد عالميا خاصة في ظل التناقضات المحيطة بكيفية تعامل الصين مع الجائحة؟
وبينما يحمل خصوم الصين لها وعلى رأسهم الولايات المتحدة مسؤولية تفشي الفيروس، فإن الأنصار يشيدون بالكيفية التي تعاملت بها مع الجائحة ونجاحها في تطويقها محليا على الأقل، بينما وقفت دول أوروبية عريقة في حالة من الارتباك والتخبط، بل إن أسئلة أكثر تخصصا في المجال الاقتصادي مثل تقييم دور البنوك المركزية، وآليات عمل النظام النقدي والمالي العالمي، وسياسات الغذاء والطاقة العالميين خلال الجائحة ستكون محل جدل كبير بين المختصين.
باختصار، هل ستسهم الجائحة في بناء نظام اقتصادي أكثر عدلا وتوازنا داخل كل دولة، وبين مكونات النظام العالمي كله، بحيث يولد نظام جديد أكثر اتزانا وقدرة على المساعدة المتبادلة في أوقات الأزمات، أم أن الاختلال الراهن في النظام الاقتصادي سيتواصل ويتعمق؟
"الاقتصادية"، استطلعت آراء مجموعة من الخبراء الاقتصاديين حول المستقبل الاقتصادي وما يحمل في طياته من تفاصيل.
يرى البروفيسور إل. دي مارتن أستاذ الاقتصاد الدولي سابقا والاستشاري في عدد من المنظمات الدولية، أن جائحة كورونا مثل تغير المناخ جزء من مشكلات الهيكل الاقتصادي العام، وعلى الرغم من أن قضية المناخ ووباء كورونا يبدوان للوهلة الأولى أنهما من المشكلات البيئية أو الطبيعية إلا أنهما مدفوعان بعوامل اجتماعية.
ويضيف مارتن "ستتعالى الأصوات بنهاية الرأسمالية، وسيتزايد الانتقاد للنظام الرأسمالي العالمي وقدرته على التعامل مع تلك النوازل، لكن لن يكون هناك بديل شامل له لفترة طويلة، سيسعى بعض إلى تهذيب المشهد، وإضفاء بعض الجوانب الإنسانية عليه من خلال مزيد من المساعدات، وتعظيم الجانب الاجتماعي له وليس أكثر من ذلك، ثانيا كشفت الأزمة أن الدولة ستظل حجر الأساس في بنية الاقتصاد العالمي، وتلك هي الكلمة المفصلية في طبيعة النظام الاقتصادي في المرحلة المقبلة، فنظام ما بعد الجائحة سيشهد مزيدا من الانكفاء الذاتي، وعودة الحواجز التجارية والضوابط المالية، بما قد يعنيه ذلك من استعادة الدول المتقدمة عديدا من الصناعات التي قامت بتحويلها إلى الاقتصادات البازغة، وسنشهد مزيدا من حدة المنافسة والاستقطاب الاقتصادي وسيترافق ذلك مع تراجع معدلات النمو في الأسواق الناشئة، وستزداد حدة الشراسة لدى الاقتصادات المتقدمة، وسنشهد تصاعدا في العداء الاقتصادي بين قطبي الاقتصاد الدولي الولايات المتحدة والصين".
لا يبدو مارتن من مؤيدي الأفكار التي يروج لها بعض الخبراء بأن الركود الاقتصادي الذي سيشهده العالم نتيجة انتشار وباء كورونا سيكون مؤقتا، بل يتوقع أن معدل النمو الاقتصادي سيظل منخفضا في الأعوام المقبلة لفترة ملموسة.
ويواصل قائلا "من المتوقع أن تتسم مرحلة ما بعد الجائحة بتزايد في أعداد الدول العاجزة عن سداد ديونها، وزيادة معدلات الاقتراض الدولي في الوقت ذاته للتعامل مع الخسائر الاقتصادية للأزمة، وهذا سيفجر أزمة ديون ذات طبيعة عالمية غير مسبوقة، لأن عديدا من الدول المتقدمة سيواجه أيضا ضغوطا حادة ناجمة عن أن سداد ما عليها من ديون قد يعني عمليا انخفاضا واضحا في مستويات معيشة السكان".
الدكتورة إيلين تشودري أستاذة التجارة الدولية في جامعة ليفربول والاستشارية في منظمة التجارة العالمية تعتقد أن الاقتصاد العالمي سيكون بعد الجائحة أكثر تكاملا مما كان عليه من قبل، وما الأصوات التي تنادي بمزيد من الحمائية إلا أصوات تغرد خارج سرب الحركة التاريخية للاقتصاد الدولي.
وتضيف أن "الانطباع الذي ساد نتيجة الأزمة أن شبكات العولمة هشة للغاية بسبب تعقيداتها المذهلة، وأنها تتعطل بسهولة، وتجعل الدولة وسكانها رهينة الاعتماد على الخارج، لكن بعد أن تهدأ العاصفة ويستعيد العالم الجزء الأكبر من توازنه المفقود، سيكتشف أن تلك الانطباعات السلبية التي روج لها بعض القادة ضد العولمة وحرية التجارة مضلة ومضللة للغاية؛ فشبكات الإنتاج العالمي التي تتسم بالتعقيد هو ما يمنحها القوة، وهذا الترابط الاقتصادي العالمي حال دون أن يكون العالم خلال الجائحة رهينة لدولة واحدة أو مجموعة محدودة من الدول لإمداده باحتياجاته، بل إن العولمة هي التي أتاحت الفرصة لتعزيز الابتكارات على المستوى العالمي، وتلك القدرة الابتكارية ليست فقط ذات بعد اقتصادي مهم يؤدي إلى زيادة معدلات التجارة الدولية، بل الأكثر أهمية أنها تؤدي إلى النهوض الشامل بمستوى المعيشة من خلال نقل المستهلك إلى مستوى استهلاكي أعلى، وحتى في الأزمة الراهنة، فإن الذين ينتقدون العولمة وحرية التجارة، لأنه عندما تفشى الفيروس في الصين، فإن العالم وجد مصاعب في تلبية احتياجاته من بعض السلع، يتناسون أنه بفضل العولمة وحرية التجارة أمكن توجيه الطلب العالمي إلى دول أخرى".
وتستدرك إيلين قائلة "إن العولمة تعزز المرونة الاقتصادية، وهذا سيكون جوهر الاقتصاد الدولي في مرحلة ما بعد الجائحة، باعتبار ذلك الوسيلة الوحيدة لضمان إنهاء حالة الركود الاقتصادي التي باتت واقعا حقيقيا الآن، وهذا لا يعني بالطبع أن ملايين من الأشخاص لن يفقدوا وظائفهم، ومئات الآلاف من الشركات ستنهار، لكن الخسائر ستكون أكبر بكثير إذا كان رد الفعل العالمي مزيدا من الحمائية الاقتصادية".
وفي هذا السياق، لا تنفي إيلين أن الدولة أثبتت أنها حجر الزاوية في الاقتصاد الدولي خلال الأزمة، لكن هذا تحديدا ما أدى إلى الإخفاقات التي شهدها العالم في التعامل مع الجائحة من وجهة نظرها.
وتشير إيلين إلى أن "المنظمات ذات الطبيعة العالمية ستقوم بدور أكبر في توجيه مسار الاقتصاد الدولي خلال الفترة المقبلة، ومؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي وحتى منظمة التجارة العالمية ستلعب دورا محوريا في المرحلة المقبلة، ذلك لتزايد الحاجة الدولية إلى قدراتها المالية والخبرات التنظيمية المتاحة لديها".
من جهته، يعتقد الدكتور جوردن سميث أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة ليدز أن المشهد الاقتصادي في مرحلة ما بعد الجائحة، ولنحو عقد من الزمان على الأقل سيكون ملتبسا غير واضح الملامح يتسم بالاستقطاب والتفتت في آن واحد.
ويضيف سميث أن "جائحة كورونا حدث غير مسبوق في العصر الحديث، وقد أوجدت مشهدا دوليا مشوشا، واتسم المظهر العام لمواجهة الفيروس باكتفاء كل دولة على ذاتها للتعامل مع تحديات الأزمة، وعندما يستعيد الاقتصاد العالمي توازنه، فإننا سنشهد ولأعوام تبادل الاتهامات بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جانب، والصين وعدد من الاقتصادات التابعة لها من جانب آخر، بشأن على من تقع مسؤولية الخسائر الناجمة عن الفيروس، هذا التجاذب سيحمل عددا من الملامح سيعيد صياغة المشهد الاقتصادي الكوني، إذ سيصاب أغلب المؤسسات الاقتصادية والمجموعات الدولية بمزيد من الشلل في الأداء، وبينما ستزداد حدة المنافسة التجارية بين قطبي الاقتصاد العالمي الولايات المتحدة والصين، فإننا سنشهد مزيدا من الحمائية الاقتصادية في العلاقة الثنائية بينهما، وستتراجع القدرة الاقتصادية للولايات المتحدة لمصلحة مزيد من صعود نجم الصين".
جيف راسل الخبير الاقتصادي ورئيس قسم الأبحاث في مجموعة لويدز المصرفية يرى أن المشهد الاقتصادي بعد الجائحة سيكون مختلفا في جوهره عن النظام الاقتصادي العالمي السابق.
ويضيف قائلا "الاقتصاد الدولي تعرض لهزة عنيفة غير مسبوقة أدت إلى خلخلة في الأساسات التي يرتكن إليها النظام ذاته، وفي الواقع بعض تلك الاهتزازات سبق ظهور الفيروس، مثل التحولات الجارية في مجال تجارة التجزئة، حيث تتعزز التجارة الإلكترونية على حساب الأنماط التقليدية، هذا الاتجاه سيزداد بما قد يحمله في طياته من ارتفاع في معدلات البطالة على المستوى العالمي مستقبلا، كما أن الأزمة عززت الشعور العام لدى الأفراد خاصة وبدرجة ملحوظة أيضا لدى الشركات بأهمية الاحتفاظ بمبالغ نقدية احتياطية تحسبا للطوارئ، وإذا كان ذلك سلوكا عاما لدى عديد من الفئات الاجتماعية فإن عمقه ومدى نطاقه سيتسعان، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى مصاعب في توافر السيولة، والأهم أن يدفع إلى انخفاض الطلب الاستهلاكي".
ويشير راسل إلى أن الأزمة ستنعكس سلبا على الاستثمار، ما سيعمق الركود، والعصب الرئيس لإدارة الاقتصاد المحلي سيقع على عاهل محافظي البنوك المركزية، إذ ستتمتع تلك البنوك بسيطرة شبه مطلقة على الاقتصاد الوطني وستكون الموجه الرئيس لدفة النشاط الاقتصادي، وهذا سيعزز من الاعتماد على السياسات المالية للتعامل مع الأزمات الاقتصادية المقبلة، بما يتضمنه ذلك من تراجع الأفكار التي تنظر إلى الأزمات الاقتصادية على أنها أزمات اجتماعية في الأساس، وأن إصلاح الخلل الاقتصادي يتطلب تدابير اجتماعية تعزز العدالة في توزيع الدخول".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية- عالمية