التجارة العالمية تترنح

مرت التجارة العالمية بتجاذبات تجارية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين في 2019؛ ما تسبب في خفض طفيف في حجم التجارة العالمية. بلغت قيمة الصادرات العالمية من السلع والخدمات العام الماضي نحو 18.9 تريليون دولار، ستة تريليونات دولار على التوالي. أما في العام الحالي، فتسببت أزمة كورونا في آثار كارثية في الاقتصادات العالمية، ولكن تأثيراتها في التجارة العالمية أشد بسبب طبيعة التجارة وارتباطها بشكل أوثق بفتح الحدود وحركة الأفراد. لقد أجبرت طبيعة الأزمة الصحية الدول على اتخاذ إجراءات غير مسبوقة في العصر الحديث، وتقديم كثير من التضحيات الاقتصادية لحماية صحة البشر وأرواحهم؛ ما سيرفع تكاليفها الاقتصادية ويخفض التجارة والناتج المحلي العالميين.
خفضت الجائحة العرض والطلب الكلي العالميين، نتيجة حدها من عرض العمالة واستهلاك كثير من السلع والخدمات؛ ما عطل قطاعات اقتصادية كاملة. ويتوقف تقدير التأثيرات الاقتصادية للأزمة على مدة بقائها الذي لا يبدو محسوما بدرجة كبيرة. تعتمد التوقعات المستقبلية للأنشطة الاقتصادية والتجارة على الافتراضات والتقديرات وليس على البيانات؛ ما يجعلها عالية التأرجح ومنخفضة الثقة. ويرجح المتفائلون بدء التعافي في النصف الثاني من العام، وبقوة، وذلك بشرط أن ترى الأسر والأعمال أن الأزمة عابرة ومؤقتة، بينما يميل المتشائمون إلى الاعتقاد أن التعافي سيتأخر للعام المقبل وسيكون بطيئا ومحدثا لتغيرات هيكلية.
تتوقع منظمة التجارة العالمية تراجع حجم التجارة الدولية في 2020 بشكل كبير، وبمعدلات تصل إلى 13 في المائة في أفضل حالاتها، وقد تتدنى بنحو الثلث أو 32 في المائة بالتحديد في أسوأ الاحتمالات مقارنة بمستوياتها عام 2019، أما في 2021 فتتوقع المنظمة تعافي التبادل التجاري العالمي. يعود التفاوت الكبير في سيناريوهات التوقعات إلى حالة عدم اليقين التي تحيط بالاقتصاد العالمي بسبب الجائحة، وانخفاض الثقة بتقديرات آثارها الاقتصادية السيئة التي تفوق آثار الأزمة المالية العالمية بعدة مرات، وكذلك الشكوك المحيطة بفاعلية السياسات العالمية المنوط بها النهوض بالاقتصاد العالمي.
إدراكا لخطورة الأزمة تناست الدول حجم تكاليف التصدي لها وآثارها المترتبة خلال الأعوام المقبلة، وخصصت أموالا طائلة لوقف الوباء والتخفيف من وطأته الصحية والاقتصادية على الأسر والمجتمعات. وكثر الحديث أخيرا عن تريليونات المخصصات لتوفير الدعم الكافي والتخفيف من آثار الإجراءات الصحية في الأسر والأنشطة الاقتصادية. سيأتي معظم هذه المخصصات من الاستدانة التي تعني صعودا كبيرا في المديونيات الحكومية؛ ما ستترتب عليه آثار ليست بالهينة في الديون الوطنية لأعوام مقبلة. وما لم تتخذ الإجراءات المناسبة والسليمة حاليا، فإن بعض الدول سيعاني طويلا تبعات الجائحة لأعوام مقبلة، وستحدد نجاعة القرارات الحالية حجم وسرعة التعافي في اقتصادات الدول وتجارتها. كما ينبغي التنويه إلى أن التنسيق بين الدول في سياسات التحفيز الاقتصادي سينهض بدرجة أفضل بالاقتصاد العالمي من عمل كل دولة وحدها.
أبرزت الأزمة مخاطر مرتبطة بصناعات سلاسل الإنتاج والصناعات الأكثر تعقيدا بما في ذلك الإلكترونيات والسيارات، وستعاني هذه الصناعات تراجعا أقوى من تراجع التجارة الكلي بسبب تأثرها بما يحدث في بلدان متعددة. من جهة أخرى على الدول توخي الحذر بشكل كبير حيال تجارة المواد الغذائية والصحية والأساسية، حيث قد تقود المخاوف والشروط الصحية الإضافية التي ستفرضها الدول على تجارة الأغذية أو الصحية والأساسية إلى حدوث نقص في إمداداتها أو زيادة أسعارها؛ ما يهدد حياة آلاف البشر. أما تجارة معظم قطاعات الخدمات فستتراجع بشكل أكبر من تجارة السلع وقد تغدو أكبر الخاسرين، حيث سترتفع مخاوف العدوى والقيود على سفر وتنقل الأشخاص؛ ما سيقود إلى خسائر فادحة وانهيار عديد من شركات قطاعات الخدمات. وتختلف تجارة الخدمات عن تجارة السلع في أن الفاقد منها خلال الأزمة في 2020 سيضيع للأبد، حيث لا يوجد مخزون منها يمكن السحب منه، بينما سيعوض جزء كبير من تجارة السلع المفقودة بزيادة عجلة إنتاجها المستقبلية. وعلى الرغم من التأثيرات البالغة للأزمة في تجارة الخدمات الكلية إلا أن تجارة بعض قطاعات الخدمات ستستفيد، خصوصا قطاعات خدمات المعلومات، التي ستكون المستفيد الأبرز من الأزمة بسبب زيادة الاعتماد على خدمات الإنترنت والعمل عن بُعد.
فاقت توقعات تراجع التجارة العالمية توقعات تراجع النشاط الاقتصادي بسبب حساسية التجارة العالمية لتغيرات الدخل بدرجة أكبر، ولتأثيرات الوباء في التجارة التي ترتبط بشكل أكبر بفتح الحدود وحركة الأفراد، وكذلك للتأثيرات الكارثية للوباء في بعض الخدمات عبر العالم؛ كصناعة الطيران والضيافة والمطاعم. من جهة أخرى، عانت أسعار المواد الأولية، خصوصا مواد الطاقة، تراجعا حادا منذ بداية العام بسبب التراجع القوي والمفاجئ في الطلب العالمي. وشملت تراجعات الأسعار النفط ومنتجاته والغاز الطبيعي والفحم الحجري، كما انخفضت - بقوة - أسعار بعض السلع الزراعية المرتبطة بالطاقة والتجارة الدولية بشكل أقوى وأبرزها السكر والذرة. ونتيجة لذلك ستتفاقم خسائر القطاعات والدول النامية الأكثر ارتباطا بهذه السلع.
عموما، تكتسب التجارة العالمية أهمية بالغة نظرا لدورها في تحفيز الاستثمار والنشاط الاقتصادي، وتعزيز المنافسة والإنتاجية، ونقل التقنية، والنمو الاقتصادي، وزيادة تخصص وإنتاجية الاقتصادات، ورفع دخول السكان. لهذا لا بد من الاستمرار في انفتاح الأسواق العالمية، وتسهيل إجراءات وطرق التجارة، وتشجيع التدفقات الرأسمالية العالمية، وتعزيز الشفافية والحوكمة، وتحسين بيئة الأعمال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي