الاستهلاك وإعادة تعريف القيمة

ثلاثة ملامح رئيسة مرتبطة بالسلوك الاستهلاكي شوهدت في مختلف دول العالم كردة فعل لانتشار فيروس كورونا وما لحقنا منه من تأثيرات التباعد الاجتماعي واحترازات العزلة: هلع الشراء، إعادة ترتيب أولويات الاستهلاك، وتغييرات ملحوظة في التسوق الإلكتروني. وهذه التغيرات طبيعية حسب رأي خبراء علم النفس الذين يؤكدون أن الظروف الاستثنائية تحفز التغيير السلوكي الاستثنائي، وأن القلق والشعور بعدم اليقين والظروف اليومية الجديدة التي لا نسيطر عليها بالكامل تحثنا على القيام بأفعال أو إيجاد بدائل لم نعهد القيام بها. وعلى الرغم من أن الهلع الذي أصاب كثيرين في البداية كان في دول أخرى ولم نشاهده لدينا، إلا النقطتين الأخيرتين: إعادة ترتيب أولويات الاستهلاك وممارسات التسوق الإلكتروني تستحق التوقف، خصوصا أن معظمنا شعر أو اقترب كثيرا من هذا التغيير.
سمح التغيير الإجباري في أسلوب الحياة اليومية، خصوصا ما طرأ على إمكانية التحرك والتنقل باختفاء أو ظهور عدد من الممارسات الجديدة، أبسطها وأوضحها التغير في طريقة الحصول على الأكل والشرب. عند البعض كان هناك تحول واضح من الاعتماد على الوجبات السريعة إلى التقليل منها أو الاعتماد بالكامل على الطبخ في البيت، وهناك كذلك من تخلى عن عادته بشراء كوب القهوة الذي يظهر فيه أسلوبه واختياره إلى صنع ذلك الكوب بنفسه في غرفة معيشته. ولست أطرح هذه المشاهدة كتغيير إيجابي أكثر صحية وأقل تكلفة، لكن مشاهدة التأثيرات المختلفة على الاستجابة للرغبات كفيل بتعلم كثير عن ممارساتنا الاستهلاكية. ما يستحق النظر هنا هو كيف أن الحركة والتنقل كانت الممكن والمعطل الأهم في هذا النوع من الاختيارات، وكيف أن فقدان القدرة على الحركة والتنقل بالأسلوب الذي اعتدنا عليه عطل قدرتنا على تحقيق بعض الاختيار. وهنا، يظهر لنا مدخل ممتاز لتغيير العادات واكتشاف الممكنات والمعطلات الشخصية التي تعيننا حين اكتشافها على التحكم والسيطرة على أسلوب المعيشة واختياراتنا اقتصاديا وسلوكيا.
ينطبق هذا المؤثر (أي الحركة والتنقل) على استخدامنا للخدمات الصحية غير الضرورية، إذ كانت المستشفيات إلى وقت قريب أشبه بالمجمعات التجارية التي تعج بالزحام وزوايا القهوة، وبقائمة انتظار طويلة من أصحاب الاحتياجات الطبية المهمة وغير المهمة. ومثل ذلك أيضا هناك من نجح في إيجاد البديل الرياضي الملائم داخل المنزل بعد الاعتماد الكلي على اشتراكات الأندية الرياضية. لم يكن الاشتراك في ناد رياضي أمرا خاطئا، لكنه مجرد اختيار يساعدنا على تحقيق هدف الحفاظ على الصحة واللياقة. تحقيق هذا الهدف قد ينشأ من السلوك (أ) أو السلوك (ب)، ونحن من يحدد السلوك الملائم لنا. عندما تغير السياق، اتضح لنا بشكل جلي أن صناعة الحافز الشخصي أمر خاص بنا، فلن تساعد المقارنات اليوم على تحديد أفضل ناد يمكن الاشتراك به، لكن متى ما تم بناء الإرادة الكافية لممارسة الرياضة، يستطيع الشخص أن يصنع محفزاته حيثما يكون وبالتكلفة التي يختار لتحقيق هدفه، سواء بشراء بعض الأدوات الملائمة أو بتنفيذ حركات بسيطة منتظمة دون أي تكلفة.
من المشاهد كذلك، الاختفاء شبه التام للتكاليف الاجتماعية مثل العزائم الكبرى وهدايا المجاملات التبادلية. وعلى الرغم من أن الجميع فقد قدرا لا يستهان به من فرصة التواصل الاجتماعي، الذي يحقق التكافل وصلة الرحم، إلا أن قدرا كبيرا من السلوكيات المكلفة التي لا تصنع كثيرا من القيمة اختفى كذلك، ولم نفقد بسببه أي شيء مهم.
تذكر تقارير أبحاث السوق أن التسوق الإلكتروني يغير شكله، خصوصا فيما يخص البنود التي تقدمت في سلم الأولويات، مثل المنتجات الصحية والطبية وأدوات النظافة والسلع الأساسية والترفيه المنزلي، والبنود التي فقدت مركزها السابق، مثل منتجات السفر وأدوات السيارات. وهذه التغييرات تشمل الشراء الاحترازي، كالفيتامينات مثلا، والشراء التفاعلي، كالمعقمات. المشاهد أن التغيير الذي ما زال مستمرا حتى اللحظة يدفع السلوك الاستهلاكي، خصوصا الإلكتروني إلى مستوى اعتيادي جديد new normal وهذا الأمر المهم لأصحاب الأعمال هو مهم كذلك للمستهلكين.
يدرس أصحاب الأعمال ومقدمو الخدمات السلوكيات الاستهلاكية الجديدة، وهم لا يسيطرون بالكامل، فهناك من يحقق النجاحات وهناك من يفشل وهناك من هو بين ذلك وذاك. وكأصحاب الأعمال، يجب أن يدرس المستهلك نفسه، يكتشف ذاته، ويعيد تقييم أساليبه وممارساته التي تتمثل ماديا في الاستهلاك والصرف المالي. للبعض، بقي من راتب الشهر الأخير فائض معتبر في الحساب المصرفي لم يصرف بعد، وهذا شاهد حي أن تغيير الظروف سمح بتغيير السلوك.
لن يكون المطلوب أن نتنازل عن هذه التصرفات والمصروفات أو ننكرها بلا سبب، بل نستفيد من اكتشاف وتقييم واقعنا المؤقت بكل ما يتيحه من امتيازات. لقد سمح لنا هذا الواقع بارتداء عدسة جديدة نرى بها احتياجاتنا بطريقة لم نعهدها من قبل، ما يمكننا من إعادة تعريف القيمة التي نحصل عليها من سلوكياتنا المختلفة؛ سنجد بلا شك ما يستحق التكرار والمعاودة، وما يستحق أن نتخلص منه للأبد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي