Author

كورونا بين فهم الواقع والثقة المفرطة

|
عندما يطلب مسؤول المنشأة وجهة نظر فريقه حول ما يجب فعله، استجابة لجائحة مثل كورونا، ستطرح له قائمة طويلة من الآثار المحتملة والأفعال الموصى بها. انتهى معظم المنشآت المحلية من الخطوة الأولى التي ستتبع بنقاش وخطوات لن يتوقفا لأشهر على الأقل. هناك ما يخص الصحة والتباعد، والعملاء والموظفين، والإيرادات والتكاليف، والالتزام بالمتطلبات التنظيمية وغير ذلك. هذه المسألة المهمة تمس فيها مصائر العاملين بالمكان، ويعاد تشكيل العلاقة مع العملاء، ويحدد مستقبل المنشأة القريب والبعيد، إذ تتخذ فيه القرارات المتعلقة بالاستفادة من برامج الدعم وتخفيض المصاريف وربما تعرف الشركة في السوق بأنها من الشركات الناجحة في تجاوز الأزمة أو الخاسرة المبتعدة. الجدير بالذكر، أن معظم ما يطرح على طاولة المسؤول هو ملخص لفهم الوضع الحالي: وضع السوق، وقدرة المنشأة على التعامل معه. والسؤال الذي أود طرحه: ما مدى ثقة فريق الإدارة بفهمهم هذا الوضع؟ وعلى ماذا تبنى هذه الثقة؟
يظن معظم المسؤولين في عالم الأعمال أنه على معرفة جيدة بالسوق وأعمالها. يعتقد البعض أن لديه ما يكفي من القدرات التنظيمية الذكية بما في ذلك ما يسمى تحاليل الذكاء أو الـ Business Intelligence التي تسعى إلى تحويل البيانات والرسائل والمؤشرات المتاحة له داخل السوق إلى ملخصات واستنتاجات مفهومة، ويعتقد كذلك أن أنظمة المعلومات داخل مقر العمل تكشف له كل ما يجب كشفه. إضافة إلى ذلك يسقط في العادة كثير من التنفيذيين في مغبة الثقة المفرطة، التي تفسد عليهم بيئة اتخاذ القرار السليم وتوقعهم في عاقبة "الأنا" والحدس المخادع الذي يبنى على معلومات مغلوطة أو ناقصة أو معلومات تعكس الحقيقة لكن بقدر كبير من التشويش. تثبت الدراسات وجود الثقة المفرطة كظاهرة سلبية مؤثرة تسهم في بروز التنفيذيين الذين ترتفع أسهمهم عند تنفيذهم قرارات خطرة بنتائج جيدة بينما لا يحاسبون على هذه القرارات عندما تسوء النتائج. كثيرا ما ينتهي هذا الدور قبل انكشافه بما يسمى وهم السيطرة Illusion of Control. تشكل الأزمات وظروف القوى القاهرة فرصة لمثل هؤلاء لممارسة ما يجيدونه، فإن لعبت الظروف لمصلحتهم كسبوا وأثبتوا جدارتهم، وإن لم ينجحوا في مساعيهم لن يصعب عليهم إيجاد المبررات.
حتى نقترب أكثر من الواقع، هناك بالتأكيد احتياج للمسؤول الفذ الشجاع الذي يجيد اللعب مع الخطر. لكن حتى تكتمل العملية التنظيمية ونقلل من ارتهان نتائج الأعمال على الحظ الشخصي لهذا المسؤول، يجب الالتزام بثلاثة عناصر مهمة. الأول، السيطرة على فهم السياق الخارجي، أي السوق وظروفها ومتغيراتها، بأفضل طريقة ممكنة. الثاني، السيطرة على فهم السياق الداخلي، وهنا نقصد العمل ومكوناته، وتحديدا المعرفة الداخلية الناتجة من أنظمة المعلومات المالية وغير المالية. الثالث، الحوكمة التي تضبط تدوير هذه المعرفة من مصادرها، حتى نقاط صنع القرار ومراقبته ومراجعته بعد ذلك.
نتوقف أولا عند ما تخص السوق من معلومات ونقول: إن فهم السوق مسألة معقدة جدا حتى في الظروف الطبيعية المستقرة، وذلك لضعف المصادر المعرفية المستقلة مثل دور الأبحاث والنشر المختصة، وبيانات المنافسة ذات المصداقية العالية، ومتطلبات الشفافية الإلزامية في القطاعات، وصعوبة الوصول إلى البيانات المجمعة العامة "مثل ملخصات التقارير الإشرافية" بشكل دوري ومباشر ومؤتمت. وعندما تتغير أنماط السوق - مثل ما يحدث وقت الأزمة - فإن هذا يصاحبه هبوط كبير في جودة ما يتاح مع بيانات يمكن الاستفادة منها، وبالطبع يضعف هذا من قدرة الفرق التي تدعي فهم السوق والقدرة على التنبؤ بحركاتها المقبلة، وعلامة الاستفهام هنا لمن يؤكد لغيره - رؤساء أو مرؤوسين - ما سيحدث في قادم الأيام.
ثانيا، من المعروف أن جودة صناعة المعلومة الداخلية ضعيفة في مؤسساتنا المحلية - ببعض الاستثناءات القليلة. حتى تلك المؤسسات الكبرى التي تستثمر في أنظمتها المعلوماتية بشكل ضخم لا تقترب كثيرا مما يمكن عمليا الاقتراب منه. عالميا، تطورت الأنظمة اليوم وأصبحت تدمج بين المعلومة المالية وغير المالية وباتت آليات الرصد والتقرير الفورية متاحة للمسؤولين حتى أعلى مستوى، بل تقوم الشركات في كثير من الأماكن بتجييش علماء البيانات والإحصاء لرصد واكتشاف الأنماط والمؤشرات الدقيقة التي تجعلهم على مقربة من الواقع والسلوك المقبل مستخدمين التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي. بينما يظن بعض المسؤولين لدينا أنه قام بأفضل ما يجب فيما يخص كورونا مع أنه لم يراجع تقاريره الشهرية والأسبوعية، لأنها لم تصدر بعد!
ثالثا، تدوير المعلومة من نقطة صناعة الحدث داخل الشركة - أو من أي مصدر خارجي - له آداب وأعراف، فلا يجب أن يملك أحدهم إيقاف المعلومات الحساسة عند مستوى معين ولا أن تتغير آلية التقرير من فترة لأخرى. ضبط هذه المسائل - وكل ما يخص الحفاظ على حق المعرفة والجودة - لا يصح إلا بحوكمة والتزام معلوماتي على مستوى عال، يشمل جميع طبقات صناعة القرار من المشرف العادي حتى الرئيس التنفيذي ومجلس الإدارة ولجانه والمساهمين كذلك. كل معلومة لها قناة خاصة تنتقل من خلالها، وتجميع ملائم يناسبها، وآليات محددة للتصعيد. يجب أن يمتلك كل الأطراف التي تخضع للمساءلة والمحاسبة قدرا من التعرض لهذه المعلومات يلائم مسؤولياتها. ضعف هذا الجانب في أوقات الأزمات - حتى لو اكتمل الجانبان السابقان - يجعل استخدام الثقة المفرطة من المسؤول خيارا متاحا، والمحاسبة عليه مسألة مستحيلة.

إنشرها