اضطراب الأسواق المالية
أثار الانتشار المتسارع لفيروس كورونا الجديد هلع الأسواق المالية العالمية خلال الفترة الماضية. وارتفعت المخاوف من تسبب انتشاره عبر العالم في خفض معدلات نمو الاقتصادات والتجارة العالمية بشكل أقوى من التقديرات السابقة؛ ما ينذر باحتمال حدوث أزمة عالمية في قطاعات اقتصادية كثيرة أبرزها قطاعات السفر والسياحة، والمهرجانات والمنافسات الرياضية، وسلاسل الإنتاج. وذهب بعض المتشائمين إلى إمكانية تسبب المرض في أزمة شبيهة بالأزمة المالية العالمية، ولكن معظم المختصين والمؤسسات الدولية لا يرون إمكانية حدوث ذلك. وعديد من التوقعات كانت ترى تباطؤا في نمو الاقتصاد العالمي خلال العام حتى قبيل ظهور المرض، ولكن انتشاره عزز توقعات تراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي. ومن المستشرف تراجع نمو الاقتصادات الكبرى حول العالم، خصوصا في الأمد القصير.
يشير أحدث التوقعات إلى احتمال تراجع نمو الاقتصاد الأمريكي إلى نحو 1.25 في المائة في النصف الأول من العام الحالي، وهو ما يقارب نصف مستواه خلال العام الماضي. بالنسبة لأوروبا، فإن الوضع سيكون أصعب من الولايات المتحدة حيث تأثرت إيطاليا بشكل كبير خلال هذه الفترة وانخفضت الأنشطة الاقتصادية بشكل كبير في الجزء الشمالي منها، إضافة إلى ذلك قد تدخل ألمانيا هذا العام في مرحلة ركود. أما في آسيا التي بدأ فيها المرض، فسيعاني الاقتصاد الصيني في الربع الأول من العام تراجعا كبيرا في معدلات النمو الاقتصادي وقد لا يشهد أي نمو في هذا الربع؛ ما سينعكس سلبا على نمو العام بكامله، كما أن الاقتصاد الياباني سيدخل هذا العام في مرحلة ركود، وسيتراجع نمو الاقتصاد الكوري الجنوبي. في المقابل يتوقع المختصون عودة النشاط الاقتصادي للنمو في النصف الثاني من العام لانحسار المرض ــ الذي يعتقد أنه موسمي ــ مع دفء الطقس في نصف الكرة الأرضية الشمالي خلال فصلي الربيع والصيف المقبلين.
نتيجة للأجواء المتشائمة ووصول الفيروس إلى الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول فقد مؤشر أكبر أسواق المال العالمية "وهو مؤشر داو جونز" خلال الأسبوع المنتهي بيوم الجمعة 27 شباط (فبراير) 2020 ما يزيد على 12 في المائة من أعلى قيمة وصل إليها. وهذا أكبر تراجع أسبوعي منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. وخسرت باقي مؤشرات الأسهم الأمريكية نسبا مقاربة لما فقده مؤشر داو جونز، كما تراجعت مؤشرات الأسواق المالية العالمية وتلاشى جزء معتبر من قيمتها. يحاول البعض طمأنة الأسواق من خلال الاعتقاد بأن جزءا كبيرا من التراجع هو تصحيح للنمو الكبير في أسعار الأسهم التي ارتفعت فوق قيمها الاقتصادية المعقولة، بينما يرى آخرون أن هذا التراجع هو تغير واضح في مزاج المتداولين وميلهم نحول قبول أسعار أقل لأسهمهم. وعاود مؤشر داو جونز الانتعاش بقوة يوم الإثنين 2 آذار (مارس) حيث حقق أعلى ارتفاع في تاريخه، ثم هبط بقوة في اليوم التالي. وستظل الأسواق قلقة حول مصير الاقتصادات العالمية حتى تتم السيطرة على انتشار المرض.
تتأثر أسواق المال بقوة بالصدمات المفاجئة التي لم تكن في الحسبان. وتبنى التحليلات المالية والاقتصادية عادة على المتغيرات المعلومة التي لها تاريخ معين يوضح إلى حد كبير مقدار تأرجحها والعوامل المؤثرة فيها. أما الصدمات فيصعب توقعها حيث لو كانت متوقعة لما أضحت صدمات. ويعد ظهور فيروس كورونا الجديد صدمة كان يعتقد في البداية أنها صغيرة، ولكن مع مرور الوقت بدأ يتضح أنها غير هينة وأن تأثيرها سيكون محسوسا وصعب التقدير. وتتحرك الأسواق المالية عادة بعصبية بالغة تجاه المجهول، وقد تقود هذه العصبية إلى إحجام رؤوس الأموال أو جزء منها عن الدخول إلى الأسواق وقد تحفز على خروج جزء من رؤوس الأموال المستثمرة. وإذا تعاظم خروج الأموال وتراجعت أسعار الأسهم فإن هذا سيسيء إلى مراكز الشركات "المنتجين" المالية وهو ما يخفض الاستثمار ويضع بعض المنتجين في مراكز مالية غير مرغوب فيها. وفي حالة كثرة المنتجين المتأثرين سلبا فقد يؤذن هذا ببدء مرحلة من تراجع النشاط الاقتصادي وبداية الركود.
يقال إن رأس المال جبان، وهذا صحيح في معظم الأحيان، حيث يميل معظم المستثمرين إلى تجنب المخاطر حتى لو حصلوا على أرباح أقل. وتعد صناديق التقاعد والمؤسسات الحكومية والخيرية ومعظم استثمارات العائلات من أبرز متجنبي المخاطر في أسواق المال. وتملك هذه الفئات معظم الاستثمارات في أسواق المال. في المقابل، توجد قلة من المستثمرين أكثر جرأة وتفضل الحصول على معدلات عوائد أكبر حتى لو ارتفعت المخاطر. ويحقق عديد من المخاطرين ثروات طائلة خلال الأزمات بينما يعاني جزء آخر خسائر فادحة. وعموما، فإن ارتفاع مخاطر تراجع الأسواق يدفع معظم المستثمرين إلى خفض استثماراتهم أو تحويلها إلى استثمارات أكثر أمنا ومناعة ضد الركود الاقتصادي.