Author

«الفيكا» ومعضلة الكتكوت وصياح الديك

|
أستاذ جامعي ـ السويد

نصف ساعة قبل الظهيرة. نصف ساعة بعد الظهيرة. و45 دقيقة كل يوم إثنين مع بدء الدوام.
هذه الأوقات ترقى إلى مرتبة القداسة لدى السويديين. يسمونها "فيكا" وهو مصطلح أكاد أجزم من الصعوبة بمكان ترجمته إلى لغة أخرى.
في هذه الأوقات يلتقي الموظفون والعاملون في المصانع والمنشآت والمؤسسات والدوائر والجامعات والمدارس. وقبل الموعد بدقيقة، ترى الناس وهي تهرع صوب بهو كبير، بعضهم يحمل فنجانه معه لشرب القهوة.
وفي الأغلب يرافق شرب القهوة تناول الحلويات التي يبدع السويديون في إعدادها. بيد أن ما يقع في نصف الساعة هذه يتجاوز شرب القهوة وتناول الكعك أو الفطائر أو حلويات محشوة باللوز أو كرات الشوكولاتة المغطاة بشرائح جوز الهند المجفف أو الكيك الذي تغطيه طبقة من الأنواع المختلفة من التوت البري.
تناول القهوة في هذه الأوقات المحددة في جامعتنا، كما هو الشأن في جميع المؤسسات، يرقى إلى ظاهرة اجتماعية؛ وصار تقليدا محببا يلتزم به الكل وبمنزلة استراحة لبث النشاط والحيوية وغرس بذور التواصل وحب العمل.
السويديون بصورة عامة انفراديون ويعشقون حياتهم الخاصة والشخصية دون تدخل من الآخرين. وقلما يدخلون في حديث مع الآخر أو يؤدون التحية للآخر؛ وإن تحدثوا، فيكون ذلك بصوت خافت وهدوء بالكاد يسمعهم العابر.
لكن حال بدء فترة شرب القهوة، يتحولون إلى أشخاص آخرين. يتقربون الواحد منهم صوب الآخر، ويؤدون التحية ويدخلون في نقاشات في شتى المضامير ويتحدثون بصوت مرتفع أحيانا.
ويتحمل أصحاب العمل تكاليف "الفيكا"؛ وأحيانا تتحول إلى تظاهرة يتصاعد فيها الهتاف خصوصا عند تكريم موظف أو عامل حقق إنجازا معينا أو توصل إلى اختراع ما.
لدينا في الجامعة، يستخدم رئيس الجامعة والعمداء المناسبة لتكريم المتميزين من الأساتذة الذين يؤلفون كتبا أو يحصلون على براءة اختراع أو يرتقون إلى درجة الأستاذية.
هذه بمجملها تشكل "الفيكا" السويدية، الظاهرة التي يرى فيها بعض الباحثين والمنظمات الدولية السر وراء تفوق أداء الموظفين والعمال في السويد على أقرانهم في الدول الأوروبية الأخرى. ومن هنا صعوبة إيراد مرادف في العربية مثلا للتعبير عن هذه الظاهرة.
وتطغى الأحاديث ذات الشجون على ما يدور من نقاشات في هذه الفترات. وقد يتصور القراء الكرام أن "كورونا"، الفيروس الذي هو مدار الحديث في العالم، لا بد أن يشكل المادة الرئيسة للنقاش.
في الحقيقة، لم ألحظ ذلك في الأسابيع الأخيرة، كان الحديث عن الطقس وتقلباته ومقدم ربيع مبكر هو السائد. وما جذب انتباهي ما دار ويدور من نقاشات حول الزراعة البيتية وتربية الدواجن في المنازل.
هناك ولع كبير بالزراعة المنزلية. ومع ارتفاع درجات الحرارة مع الاحتباس الحراري، منعت الدولة تحويل تصنيف الأرض الزراعية إلى أي صنف آخر ولأي غرض أو سبب كان.
والاهتمام بالزراعة المنزلية وتربية الدواجن والنحل على أشده حاليا. ولهذا، جل النقاش في فترة "الفيكا" في هذه الأسابيع دار حول مسائل ذات علاقة بالزراعة البيتية وما يرافقها من نشاطات؛ بينما غاب الحديث عن فيروس "كورونا".
والدولة ترعى الزراعة البيتية، حيث تمنح مساحة من أرض زراعية لا تقل عن 200 متر مربع لكل راغب في الزراعة ضمن مقاطعات خاصة قريبة من المناطق السكنية وتمدها بالماء والخدمات لقاء أجور رمزية لا تتجاوز 100 دولار في السنة (نحو 375 ريالا).
وكانت فترة "الفيكا" في الأسابيع الأخيرة فرصة لمناقشة قرار يحرم بموجبه أي مواطن سويدي من اقتناء الديكة (وليس الدجاج البياض) داخل وبالقرب من المناطق السكنية.
وفرضت البلديات غرامات على أي شخص يقتني الديكة ضمن قطيع الدجاج مهما كان حجمه في نطاق المناطق السكنية، ما أثار موجة من الاستياء لدى مربي الدجاج في المنازل أو الأراضي المخصصة للزراعة والقريبة من المناطق السكنية.
صياح الديك في الفجر، الذي أنا شخصيا أتوق إليه، تراه البلديات في السويد أمرا مزعجا وتلقت الشكاوى من بعض الأهالي وهي تتذمر من الجيران وصياح الديكة في حدائقهم.
وصار على أصحاب قنن الدجاج في المنازل التخلص من الديكة التي لديهم؛ وبما أن أغلبهم لا يتحمل ذبحها، فما كان منهم إلا حملها ومنحها مجانا للفلاحين في المناطق البعيدة.
هذا ما دار في فترة "الفيكا" من حديث بيننا. والمشكلة العويصة هي أن الناس تحب تفقيس البيض في بيوتها ومن غير الممكن فرز البيض الذي سيفقس الديكة عن الدجاج البياض.
والناس تحب الكتاكيت هنا، خصوصا كبار السن، الذين يرون في تربيتها متعة وهواية. وتحدث البعض كيف أن بعض كبار السن أصيب بالكآبة، ومنهم من بكى بمرارة، عند إبلاغه أن عليه التخلص من الديكة التي لديه.
ولله في خلقه شؤون.

إنشرها