Author

استراتيجيات الغرامات والرسوم

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


تطورت نظرية المباراة Game Theory كثيرا منذ منتصف القرن الماضي، وذلك بسبب التنوع الكبير في استخداماتها، وقدرتها على تفسير كثير من القضايا والتصرفات في عالم الأعمال والاقتصاد. وفي المالية العامة، تجد هذه النظرية أرضية واسعة لتفسير الظواهر التي كانت ترصد ويصعب تفسيرها، ومن ذلك المنحنيات العامة، كمنحنى سكالي ومنحى لافر. فمنحى لافر مثلا يقول، إن إيرادات الضريبة تتناقص كلما زاد سعرها، حتى تصبح الزيادة في إجمالي الإيرادات صفرا مقابل أي زيادة في سعر الضريبة. هذا السلوك لم يكن له تفسير واضح من خلال النظرية الاقتصادية البحتة، لكن نظرية استراتيجية المباراة قد تجد تفسيرا مقنعا، فالمجتمع الذي يتعرض لأسعار ضرائب مرتفعة، يقرر التوقف عن العمل والإنتاج، لأنه لم يعد يحصل على ما كان يكفيه من عوائد ويرى الاستمتاع بالكسل أفضل، وبذلك يصبح التوقف خيارا استراتيجيا، وهذا صحيح في كل أشكال الضرائب أو الرسوم، وعلى المالية العامة في أي دولة أن تراقب بحرص مستوى منحنى لافر مع كل الرسوم، ذلك أن المجتمع ينظر إلى الرسوم بأنواعها ومصادرها وحدة واحدة وليست مفردة كما تنظر إليها بعض المؤسسات الحكومية. وهنا تكمن المشكلة، فبعض المؤسسات الحكومية لا تدرك التأثير الكلي للرسوم والضرائب، وهي تفرض الرسوم الخاصة بها، بل تعتقد من جانبها أن الرسوم تعظم إيراداتها وتحقق المؤشرات الخاصة بها، بينما ينظر المجتمع إلى هذه الرسوم ضمن التيار الكلي للرسوم والضرائب العامة، وقد يقرر التوقف كاستراتيجية مناسبة.
نظرية المباريات، مهمة للغاية في الجهات التي تخطط لفرض غرامات مقابل المخالفات، ذلك أن الغرامات لا تخرج في تفسير استراتيجيات نظرية المباريات Games عن ثلاث مباريات، لكل مباراة استراتيجيات مختلفة، فإذا كانت المخالفات من النوع الذي يمكن للمجتمع الوقوع فيه بسهولة "حيث تهدف الغرامة إلى تعديل السلوك"، ولا تمثل تهديدا خطيرا على الإنسان أو البيئة، فإن على المؤسسة الحكومية أن تضع استراتيجية من نوع غرامة التعويض، فالسلوك السيئ أو التصرفات غير الحضارية، يجب أن يكون في مقابلها تكلفة يتحملها المخالف، هذه التكلفة تجعل المجتمع متساويا في الحقوق، فالذين يلتزمون بالسلوك الحضاري يحصلون على عوائد من خلال التحسن المستمر في السلوك العام، بينما الذين ينتهكون هذا يدفعون مقابل ذلك وبشكل تصاعدي، ومثل هذا ما يحدث في مقابل تصرفات سيئة في النظافة العامة أو الهدر في الموارد أو السلوك المتعلق بمخالفة بعض التنظيمات البلدية أو المرورية أو غيرها، هنا تصبح زيادة الإيرادات العامة من هذه الرسوم مؤشرا إيجابيا للعدالة الاجتماعية، لكن يجب ألا تتجاوز هذه الرسوم حدود التعويض.
المستوى الثاني من الغرامات، هي التي تسعى إلى الردع وليس التعويض، بمعنى أنها تجعل تكلفة المخالفة أمرا مؤلما للغاية، ذلك أن الهدف من هذه الرسوم ليس تعويض المجتمع الملتزم بالسلوك الحضاري، بل الهدف منع المتجاوز من تكرار هذا السلوك في المستقبل. هنا يأخذ الردع معنى أعمق، وليس لتعظيم الإيرادات، أي مؤشر إيجابي. فإذا كانت الجهة الحكومية تضع في استراتيجيتها الردع، فإن وجود إيرادات من هذه الغرامات يعد مؤشرا غير مناسب في أقل تقدير، ذلك أن الردع لم يحقق هدفه، ومن ذلك الردع المتعلق بقطع إشارة المرور مثلا، فإن تحقيق إيرادات كبيرة من خلال قطع إشارة المرور ليس مؤشرا جيدا على كل حال، ومعناه يشير إلى أن المجتمع المستهدف بهذا الردع اتخذ قرارا بتحمل تكلفة قطع الإشارة بدلا من الالتزام بها. وفي هذا، فإن منحنى لافر يوضح لنا أن الإيرادات زادت مع هذه الرسوم رغم أن المطلوب انخفاضها، ولهذا يجب أن تراجع الجهة الرسوم التي من هذا النوع، فإما أن الردع ليس كافيا، وإما أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكثر عمقا بشأن العلاقات المخفية فيه. وهنا يظهر التستر التجاري، فالإجراءات مهما بلغت لم تستطع الحد من هذه الظاهرة، ما يدل أن هناك من العلاقات ما هو مخفي تماما عنا ويحتاج إلى فهم أكبر.
المستوى الثالث من الغرامات أو العقوبات ما يصل إلى التدمير الكامل، وهذا النوع من العقوبات يجب أن يكون واضحا أنه ليس لمجرد الردع، بل إن ارتكاب هذه المخالفات يعني أن المجتمع كله ينبذ من قام بها، ولا يرضى أن يكون جزءا منه. مثال ذلك، الإرهاب، فلا مجال للتسامح مع من يفكر بهذه الطريقة أو يقوم بهذه التصرفات، فالرسالة يجب أن تكون واضحة جدا، أنه لن يكون الشخص المتورط فيها مقبولا في المجتمع بعد ذلك. وأيضا تهريب وترويج المخدرات، أو القتل العمد للنفس الإنسانية المعصومة، كل ذلك ومثله لا يقبل فيه حتى معنى الردع، بل يجب أن تكون رسالة المجتمع واضحة بشأنه، فليست المسألة مقيسة بحجم الرسوم أو الإيرادات، بل إن ظهور أي شكل من أشكال هذا السلوك في أي شخص، يعني أنه تجب محاربته، وأي شخص يجد في نفسه ميلا إلى هذا، يراجع نفسه قبل التفكير في المضي قدما، أو من يجد في قريبه أو صديقه مثل ذلك فليبادر إلى معالجته أو الإبلاغ عنه.
لذا، يجب أن تدرس كل الرسوم والغرامات التي تفرضها الجهات المختلفة في الحكومة من خلال هذا المنظور، ويكون هناك مكتب في المالية العامة لدراسة هذه الرسوم وحدة واحدة، من خلال مفاهيم نظرية المباريات، وتدرك الجهات المختلفة أن التنقل بين هذه المستويات يجب أن يكون بناء على عمق في التفكير الاستراتيجي.

إنشرها