default Author

علاقة الاقتصاد بالقيم الأخلاقية «1من 3»

|


خبراء الاقتصاد قد يفضلون اتخاذ موقف محايد تجاه القيم الأخلاقية، لكن نقادا عديدين يجدون خطأ في العلاقة بين الاقتصاد والفضيلة، ويفضل خبراء الاقتصاد التغاضي عن القضايا الأخلاقية. إذ يستهويهم القول: إنهم يدرسون المفاضلات والحوافز والتفاعلات، تاركين الحكم على القيم الأخلاقية للعملية السياسية والمجتمع.
لكن الأحكام الأخلاقية لا تغض الطرف عن الاعتبارات الاقتصادية. ويمكن تقسيم النقاد المعنيين بالعلاقة بين الاقتصاد والفضيلة الأخلاقية وفق ثلاثة مفاهيم رئيسة: إلى أي مدى يمكن تحقيق الفضيلة في الحياة الاقتصادية المعتادة؟ وهل يتجاوز التحليل الاقتصادي حدوده ويقترب من سلوكيات ينبغي حمايتها من الاقتصاد؟ وهل دراسة الاقتصاد في حد ذاتها تحيد عن السلوك الأخلاقي؟
بعد يوم شاق في العمل، أو حينما يحين موعد سداد الفواتير، يشعر عديد منا بما كان يعنيه هنري ديفيد ثورو حينما كتب عام 1854 أغلب الناس يعيشون حياة يأس هادئ.
وقد وضع الفلاسفة منذ عصر أرسطو بالفعل خطا فاصلا بين الحياة الاقتصادية وحياة الفضيلة أو الحياة الهنيئة. فقد كتب أرسطو على سبيل المثال في كتابه علم الأخلاق إلى نيقوماخوس Nicomachean Ethics "إن حياة كسب الأموال حياة نعيشها مرغمين، والثروة بالطبع ليست هي القيمة التي نسعى إلى تحقيقها، فالأموال مفيدة فحسب والغرض منها تحقيق شيء آخر".
ويشير هؤلاء الفلاسفة إلى أن الناس عادة ما يعملون فقط لكسب الأموال لقضاء ضرورات مثل الغذاء والسكن والملبس. ويذكرون في المقابل مجموعة من الأنشطة الإنسانية الأخرى التي يختار الإنسان ممارستها بمحض إرادته وتكون أكثر اتساقا مع السلوكيات الفاضلة: مثل الحب والصداقة، والفن والموسيقى، والشجاعة في الحروب، والمشاركة المجتمعية، ومداواة المرضى، ومساعدة الفقراء، وغير ذلك. غير أن الإكراه والضرورات في الحياة العملية لهما جوانب أخرى أيضا. ففي عام 1844، قال الفيلسوف رالف والدو إمرسون وهو صديق ثورو وينتمي إلى مدرسة الفلسفة المتعالية نفسها": سواء كان عملك مرموقا أو متدنيا، كزراعة الذرة أو تأليف القصص الملحمية، فإن العمل الشريف الذي ينال استحسانك يعود بالنفع على حواسك وفكرك: ولا يهم كم من المرات منيت بالهزيمة، فأنت ولدت لتنتصر. والمكافأة التي تجنيها من العمل المتقن هي قيامك بهذا العمل". أتقن عملك، سواء كنت تقدم الأطعمة السريعة لزبائن جائعين، أو تقود سيارة أجرة، أو تنظف حجرة في فندق، أو تصب الخرسانة لبناء الطرق، أو تنظم اجتماعا خارجيا مصغرا كلفك به مكتبك، أو أي عمل آخر. وقد يكون هذا العمل نظير أجر مدفوع، لكن من هذا المنظور، فإن أي عمل شريف متقن يعوض صاحبه تعويضا يفوق المال.
وتوجد بالفعل فلسفة بديلة تقليدية حول العلاقة بين الحياة الاقتصادية والفضيلة الأخلاقية، ويعود أصلها إلى أعمال جون لوك وهي تخالف صراحة فلسفة أرسطو التقليدية، وتعد أن العمل والنشاط الاقتصادي ليسا كدحا بائسا مخالفا للمعايير الأخلاقية ناشئا عن عبودية الأجر وجني الأموال، بل طريقة تربط الأفراد بالعالم المحيط بهم وتشكل طبيعتهم.
هذا المنظور": العمل لا ينتج سلعا أو سلعا أساسية فحسب، بل ينتج أيضا الأفراد المستقلين الذين يعيشون الحياة التي صمموها وحددوا معالمها بأنفسهم.

من البائس؟
"العلم البائس" هو أشهر تعبير لفظي سلبي أطلق على علم الاقتصاد. لكن خبراء الاقتصاد الذين يعرفون أصل هذا التعبير يعدونه وسام شرف. ففي مقال كتبه المؤرخ والكاتب توماس كارليل عام 1849، قال إن مفهوم الاقتصاد السياسي "كئيب ومشؤوم، بل مفهوم مخز وفاجع بالفعل، ويمكن تسميته نظرا لأهميته باسم العلم البائس. لكن المقالة التي كتبها كارليل بعنوان Occasional Discourse in the Negro Question يسوق فيها الحجة على أن العمال الفقراء من أصحاب البشرة السوداء في جزر الهند الغربية يعانون رذائل "الكسل والصفاقة".
وأشار إلى أن وصولهم إلى الفضيلة يستلزم "إرغام الرجل الأسود الكسول في جزر الهند الغربية على العمل لأنه يتمتع باللياقة البدنية اللازمة". وكارليل لم يكن عنصريا فحسب. فقد كان يؤمن أن الفقراء حول العالم من جميع الأعراق "الأكثر بياضا والأكثر سوادا على السواء" ينبغي أن يمتثلوا وبالتالي فإن العمل، الذي هو أساس الحياة الاقتصادية، بعيد تماما عن استعباد من يقومون به، فهو التعبير الأساسي عن الإبداع الإنساني، ويوجد بالفعل واقعا جديدا محكوما بالفكر والخيال الإنسانيين نستطيع فيه التعرف على أنفسنا وتشكيلها على النحو الذي نريده". وكتب أستاذ القانون والفلسفة يقول في حين أن الفن والأدب والموسيقى نظرا "لطبيعتها المعقدة للغاية يمكن اعتبارها صيغة أكثر وضوحا للنواتج الأساسية للثقافة الإنسانية إلا أن قيمتها في الحياة الإنسانية ليست مختلفة في الأساس عن قيمة المنتجات الأخرى التي ننتجها للاستهلاك وتحديد الأوضاع الأساسية التي نعيشها".
وفي السياق نفسه، قام فلاسفة الاقتصاد الحديث بإعداد قائمة بالفضائل المتأصلة في سلوك السوق. فقد تحدثت دراسة Deirdre McCloskey 2006 عن سبع فضائل في الحياة الاقتصادية للطبقة المتوسطة: الحب "الطيبة والكرم والصداقة"، والإخلاص "النزاهة"، والأمل "العمل الحر"، والشجاعة "التحمل والمثابرة"، وضبط النفس "التحكم الذاتي والتواضع"، والتحوط "المعرفة والبصيرة"، والعدالة" التوازن الاجتماعي والصدق" وبالمثل، أشارت دراسة Luigino Bruni and Robert Sugden 2013 إلى أن المشاركة في العمل والتجارة تتسق مع فضائل مثل مساعدة الذات".
وخلاصة القول إن كارليل لقب الاقتصاد بالعلم البائس نظرا لأنه يقوم على أفكار مثل "ترك الناس وشأنها" و"صناديق الاقتراع"، أو ما قد نسميه بالحرية الشخصية والديمقراطية... يتبع.

إنشرها