Author

عندما تصبح الحوكمة مرضا ومجلس الإدارة عائقا

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


هذا هو المقال الثاني تقريبا الذي أحذر فيه من سوء استخدام مفهوم ومبادئ الحوكمة، وإذا كانت معظم مفاهيم الحوكمة قد نشأت منذ قرن كامل، أي مع نشأة الشركات المساهمة العملاقة والأسواق المالية المنظمة، فإن ما استجد فعلا مع ما أصبح يطلق عليه مبادئ الحوكمة هي العلاقات بين هذه المفاهيم وتحديد دور مجلس الإدارة فيها وفصله تماما عن العمل التنفيذي، والضغط أكثر باتجاه مزيد من الشفافية وتطوير عملية التقرير والتحقق من مصداقية ما ورد فيه. لكن من خلال ما أتابعه شخصيا وما قمت بدراسته أو قام به زملاء مختصون أو ما تم استشارتي فيه يدل على وجود خلل عميق في فهم دور مجلس الإدارة على وجه التحديد، وأن كثيرا من مجالس الإدارات قد حولت الرئيس أو المدير التنفيذي إلى مجرد سكرتير تنفيذي. وعندما أتحدث عن مجالس الإدارات بهذا المفهوم المطلق فإنني لا أحصره على الشركات بل إن الممارسات الخاطئة في نظري تظهر بشكل أكثر وضوحا في الهيئات والمؤسسات العامة التي لديها مجلس إدارة.
مجلس الإدارة يجب ألا يتورط في العمل التنفيذي، هذه قاعدة أصيلة في الحوكمة وما يحصل الآن من سيطرة مجلس الإدارة على القرار التنفيذي سواء بدعم من المدير التنفيذي نفسه ليضفي شرعية على قراراته التنفيذية، أو بسبب سلطة وقوة تأثير رئيس مجلس الإدارة مع ضعف واضح في المدير التنفيذي، فإن كل هذا وبأي صورة جاء يعد ممارسة خاطئة يجب التوقف عنها فورا. تنص كل قواعد الحوكمة على فصل دور التخطيط الاستراتيجي عن الدور التنفيذي للخطة عن الدور الرقابي عليها، لقد جاءت جميع مصائب الشركات والفساد المدمر للمؤسسات عندما أصبحت هذه الأدوار جميعا في يد مجلس الإدارة بل في يد شخص رئيس مجلس الإدارة، فإذا كان رئيس المجلس هو من يقرر التوجه الاستراتيجي وهو أيضا من يوجه بتوقيع العقود التنفيذية وهو من يراقب عمليات التنفيذ فإن الفساد واقع لا محالة، وأنا بهذا القول زعيم، ذلك أن الفساد -كما أنظر له دوما- ليس الاختلاس والسرقة فقط بل هو التحيز في القرار. تتفاجأ دوما أن مجلس الإدارة يناقش قضايا تنفيذية بحتة، مثل توقيع عقد مع مقاول، أو الموافقة على ترسية مشروع، أو مناقشة قضية قانونية مرفوعة على المؤسسة، وفي كثير من المؤسسات التي لديها خطة استراتيجية فإنه ما إن يقرها المجلس حتى ينساها تماما، ويبدأ بمطالبة المدير التنفيذي بموضوعات خارج الخطة أو رفع جميع القرارات إليه أو إلى اللجنة التنفيذية، وتصبح الخطة الاستراتيجية كخيال المآتة، مجرد فزاعة للغرباء لا تأثير لها في الواقع.
من أجل تحقيق رغبات أعضاء مجلس الإدارة في التدخل المباشر في العمل التنفيذي يتبنى كثير من الشركات والمؤسسات العامة فكرة إنشاء لجنة تنفيذية، وهذه اللجنة تتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أعمال الرئيس التنفيذي حتى يصبح سكرتيرا للجنة وينفذ القرارات التي تمليها اللجنة عليه. وهذا يخلط الأوراق تماما، بل يصل الأمر إلى أن كل العقود التي تبرمها الجهة لا بد من أخذ موافقة اللجنة التنفيذية ومجلس الإدارة عليها، وهذا مرة أخرى يخرج الرئيس التنفيذي عن مهام عمله الأساسي، ويصل الأمر إلى حد الكارثة إذا كان أعضاء اللجنة يمارسون هذه المهام على "عجل"، أو لديهم تداخل في المفاهيم فلا يدركون هل هم يقومون بعمل تنفيذي أو استشاري أو يقومون بأعمال رقابية. وكي تزداد الأمور تعقيدا ولأن الممارسات الجيدة للحوكمة تتطلب إنشاء لجنة للمراجعة تتواصل مع مدير المراجعة الداخلية الذي يتولى الشق الرقابي في الجهة، فإن كثيرا جدا من الهيئات والشركات يتعامل مع هذا المدير أيضا كأنه سكرتير تنفيذي للجنة. هكذا تصبح الأمور: مدير تنفيذي ليس له من التنفيذ إلا وزره، ومدير مراجعة داخلية ليس له من اسمهما إلا بعضه.
استقلال مجلس الإدارة ضرورة حتمية، وهي ضرورة ممارسة ليست ضرورة مفهوم، ومقتضى هذا الاستقلال ألا ينخرط مجلس الإدارة بأي شكل في الأعمال التنفيذية أو الرقابية المباشرة، ويحافظ على استقلاله الذهني من خلال متابعة تنفيذ الخطط الاستراتيجية بمناقشة مقاييس الأداء، ليستطيع الحكم على جودة القرار الذي اتخذته الإدارة التنفيذية، ومسار العمل وفقا للخطة، وعلى جودة التقارير والمعلومات الواردة فيه، فمجلس الإدارة يجتمع في المتوسط في الشركات السعودية خمسة اجتماعات سنويا، وتجتمع اللجنة التنفيذية ولجنة المراجعة قريبا من ستة اجتماعات في المتوسط، وهذا يشير بكل وضوح إلى عدم إمكانية بل استحالة تحقيق أي تقدم في دور الحوكمة إذا - وإذا فقط - استمرت مجالس الإدارة في ممارسة التدخل المباشر والانغماس في مناقشة القرارات التنفيذية، هذه هي قلب المشكلة، فإذا كان مجلس الإدارة منشغلا أساسا باتخاذ قرار أو حتى مناقشة توقيع اتفاق أو عقد أو تنفيذ مشروع فإنه سيكون متحيزا تماما لهذا القرار عند تقييم الأداء العام أو اتجاهات الخطة بل قد يعدل الخطة تماما حتى تنسجم مع قراره أو لجانه وهذا عين التحيز والفساد، وإذا أسهب في مناقشة هذه الموضوعات فلن يكون هناك أي وقت لمناقشة الرئيس التنفيذي في الأرقام التي يرفعها للمجلس مثل مؤشرات الكفاءة والفعالية، أو النسب التي تحققت سواء في النمو أو الأرباح أو غيرها.

إنشرها