Author

حملة اسكندنافية ضد السفر بالطائرة

|
أستاذ جامعي ـ السويد


هل هي خرافة أم فذلكة اسكندنافية أخرى، أم تجربة رائدة سيقف العالم إجلالا لها؟
يرسم آخر تقرير للخطوط الجوية الاسكندينافية مستقبلا قاتما لشركة الطيران هذه، التي تشترك فيها السويد والدنمارك والنرويج.
ويعزو التقرير وضع الشركة غير الصحي، الذي أدى إلى أن تهبط قيمتها السوقية في السويد إلى مستوى لا يرقى إلى قيمة شركة نقل صغيرة بواسطة الحافلات في البلد إلى أسباب عدة.
بيد أن ما استرعى انتباهي، أن التقرير يرى أن واحدا من أهم الأسباب هو عزوف الناس في هذه البلدان الثلاثة، ولا سيما السويد عن استخدام الطائرات للتنقل والسفر.
هناك ردة فعل شعبية عارمة ضد استخدام الطيران في السفر والتنقل. ووصل الأمر إلى أغلب مناحي الحياة من سياسية واجتماعية وثقافية وإعلامية واقتصادية.
وأغرب ما في الأمر أن الشخص الذي يستخدم الطائرة للتنقل صار يعمل جاهدا اليوم، كي لا يعرف الناس بذلك. جرى حتى تطويع اللغة السويدية لنحت مفردات وتعابير مستنبطة لازدراء المسافرين بالطائرات.
ولا يقتصر الأمر على النقل الداخلي، بل صار الناس، وبعشرات الآلاف، تتباهى بأنها لم تعد تستخدم الطيران للتنقل ليس داخل السويد وبين الدول الاسكندينافية فحسب، بل داخل أوروبا.
الناس بدأت تستخدم القطارات والحافلات للسفر إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حتى اليونان. وكان لعزوف الناس عن استخدام الطائرات أثرا سلبيا بالغا على شركة الطيران الوطنية، التي هوى سهمها أكثر من 40 في المائة في الأشهر الماضية من هذه السنة.
واليوم صارت العبارة المستنبطة الجديدة باللغة السويدية flygskam "عار الطيران" على لسان عشرات الآلاف من الناس، الذين وظفوا أغلب طاقاتهم لحماية البيئة والتنمية المستدامة.
والموقف السلبي من الطيران وعلى الخصوص بين المطارات الداخلية، مشكلة تواجهها إدارات هذه المطارات ومعها شركات الطيران.
إدارة المطارات في هذه الدول، وفي محاولة منها لجذب المسافرين، هي الآن من أكثر المؤسسات والأماكن صداقة للبيئة. وحسب آخر تقرير عن مستويات التلوث في السويد، كانت المطارات من المؤسسات المهمة، التي لم تعد تستخدم أي مادة ضارة للبيئة.
وحماية البيئة والمحافظة عليها في هذه الدول لم تعد مسألة فردية أو مسؤولية مؤسسة دون سواها. إنها مطلب تلح عليه الجماهير وصار مقياسا لإيجابية وجاذبية الأحزاب في الانتخابات.
وطريقة التعامل مع البيئة صارت مقياسا ومؤشرا للانتماء إلى النقابات والأحزاب، وكذلك الاستهلاك. والناس تتقاطر لاستخدام القطارات في التنقل، لأن رحلة داخلية واحدة بالطائرة تؤثر سلبا في البيئة أكثر من 40 ألف رحلة بالقطار.
وكانت اللغة إلى جانب محبي البيئة، حيث نحتت لنا مصطلح tagskryt "التفاخر بالقطار". وشرعت مؤسسة السكة الحديد في تسيير رحلات إضافية لتلبية الطلب المتزايد على السفر داخل السويد وخارجها.
وما يميز هذه الحملة، أن أغلب مناصريها من الشباب وطلاب المدارس بدءا من المرحلة الابتدائية. البيئة وكيفية المحافظة عليها جزء من المناهج التدريسية في المدارس وكل يوم جمعة يلتئم طلاب وطالبات المدارس أمام البرلمان في ستوكهولم لتذكير المشرعين بواجباتهم في حماية البيئة.
قد يتفق معي بعض القراء على أن الحملة هذه فيها بعض الغلو إلى درجة أن عددا لا بأس به من المسؤولين والموظفين، حتى المواطنين العاديين صار يخفي عن الناس أنه سافر بالطائرة أو استخدمها للتنقل.
واستنبط الناس مصطلحا جديداatt smygflyga للإشارة إلى الظاهرة ومعناه، "إن أراد المرء السفر بالطائرة عليه السفر بسرية".
ويراقب محبو البيئة وأصدقاؤها مشاهير الناس من الرجال والنساء، للإشارة إلى سلوكيات يرونها مناوئة للبيئة أو مسيئة لها.
هناك وعي في هذه الدول حول sustainability أو الاستدامة في كل شيء تقريبا. والاستدامة كمفهوم تعني ببساطة أن الإنسان في القرن الـ21 عليه أن يأخذ حاجته فحسب، من دون إحداث أي أذى للطبيعة.
والحملة ضد التنقل بالطائرات أخذت ترافقها حملة ضد السيارات الشخصية. بصورة عامة الاسكندينافيون يمقتون السيارات الشخصية الكبيرة ذات الدفع الرباعي، وتفرض الدولة عليها ضرائب لا يطيقها إلا قلة من الناس، حتى هؤلاء قد يعانون وصمة تشبه وصمة flygskam التي يعانيها المسافرون جوا.
ولتقليل استخدام السيارات الشخصية، تقوم الدولة بتوسيع مسارات الدراجات الهوائية، كي تتسع للذهاب والإياب والسابلة معا.
وتقدم السويد دعما ماديا لأي شخص يشتري دراجة تعمل بالكهرباء مع دواسات القدم، يبلغ 25 في المائة من ثمنها.
وآخر "تقليعة" بيئية تبنتها بلدية مدينة سويدية في الشمال، حيث قررت منع استخدام السيارات "عدا حافلات النقل العام والشاحنات" لمدة أسبوع كامل ضمن الحدود البلدية للمدينة في الصيف. وتقول البلدية، إن التجربة هي مشروع ريادي للوصول إلى منع استخدام السيارات الشخصية داخل المدينة لفترات أطول، للوصول إلى الاستغناء عنها.
فذلكة أو خرافة اسكندنافية أو مشاريع ريادية، لست أدري، ولكن الناس هنا تتعامل معها بجدية.

إنشرها