«بريكست» يصنع حاكم بريطانيا المقبل

"لا يمكن تجنب الضرر الاقتصادي على بريطانيا، من انسحاب بلا اتفاق مع الاتحاد الأوروبي"
مارك كارني، حاكم بنك إنجلترا المركزي

دخل عشرة من نواب حزب المحافظين البريطاني الحاكم في سباق على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة خلفا لتيريزا ماي. طريقة الاختيار تتم بخروج الأقل أصواتا من زملائهم النواب في كل جولة، إلى أن يصل العدد إلى اثنين، يعرضان بعد ذلك لتصويت أعضاء الحزب. وهذان الاثنان هما بوريس جونسون وزير الخارجية السابق، وجيرمي هانت وزير الخارجية الحالي. ومع حلول الـ20 من الشهر المقبل، سيعرف البريطانيون من سيحكمهم. وكما كان مؤكدا، كانت مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" المحور الوحيد تقريبا في سباق الزعامة. والحق أن شيئا لم يطرح على الساحة السياسية بهذا الزخم منذ ثلاث سنوات، أي منذ استفتاء الخروج من الاتحاد، إلى درجة أن قضايا محلية محورية صارت على الهامش. فـ"بريكست" هو الذي يشكل المشهد السياسي البريطاني، ولا شيء غيره.
كل المرشحين تباروا في طرح رؤيتهم لكيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي، إذا ما وصلوا فعلا لزعامة الحزب ورئاسة البلاد. بعض الآراء كانت متطرفة إلى درجة أن أعلن دومنيك راب المرشح الخاسر وزير "بريكست" السابق، أنه سيقوم بتعطيل مجلس العموم، على اعتبار أن هذا الأخير أوقف مرور اتفاق الخروج الذي جلبته تيريزا ماي، بل لنقل أوقف "بريكست" عمليا. لكن راب سقط من الجولة الثانية. فلا يعقل أن يطرح المرشح أمرا كهذا في بلد يفتخر بأنه من أول الديمقراطيات في التاريخ. وتباينت المواقف بالطبع بين مؤيد للخروج بلا اتفاق، وبين من لا يمكن أن يعمل للخروج إلا باتفاق واضح مع الاتحاد الأوروبي. فالأول يرضي المتطرفين الساعين للخروج، والثاني يلامس أفئدة أولئك الذين يرغبون في بقاء بلادهم ضمن الاتحاد.
المهم الآن، يوجد في الساحة مرشحان. جونسون العازم على إخراج بلاده من الاتحاد نهاية تشرين الأول (أكتوبر) المقبل باتفاق أو بلا اتفاق، وهانت، الحريص على أن يكون الخروج باتفاق، عبر إعادة التفاوض مع المفوضية الأوروبية على الاتفاق الذي وقعته لندن أصلا. الأول لا يريد التفاوض، والثاني لا يرى إلا التفاوض مسارا لهذا الخروج. لكن المشكلة لا تكمن هنا. لماذا؟ لأن الأوروبيين أقروا في كل المناسبات أن أحدا من المسؤولين البريطانيين لا يحلم مطلقا بإعادة التفاوض على الاتفاق المبرم أصلا، وإن قبلوا بملاحق ضامنة له، هي أقرب للتطمينات منها لاتفاقات. أي لا معنى لكلام هانت في مسألة إعادة التفاوض، إلا في نطاق الضمانات لما هو متفق عليه مع حكومة ماي.
لكن الأخطر من هذا كله، يبقى في توجه جونسون "وهو الأوفر حظا لخلافة ماي". فهذا الأخير لا يزال يمضي قدما على أكتاف المؤيدين بصورة عمياء لـ "بريكست"، دون أن يشرح لهم تبعات الخروج بلا اتفاق، بل ربما دون أن يفهم هو هذه التبعات. فهو يقول، يمكننا الخروج بموجب ما يعرف بـ"جات 24" وهو البند الـ24 من الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية العالمية المعروفة. وخلال فترة اعتماد هذا البند يمكن إبرام اتفاق دائم مع الاتحاد الأوروبي. هذا ما يروجه جونسون الآن وعلى كل المنابر. لكن المصيبة في هذا الطرح، أنه لم يفهم طبيعة اعتماد مثل هذا الحل، لأنه ببساطة لا يمكن العمل به إلا ضمن اتفاق مع الطرف الآخر أي يستحيل اتباعه من طرف واحد بصرف النظر عن أي اعتبارات.
واللافت أن مارك كارني حاكم بنك إنجلترا المركزي سخر علانية من مرشح حزب المحافظين، عندما قال "بيت القصيد في (بريكست)، هو خروج بلا اتفاق، أي غياب الاتفاق"، ما يعني أن "الجات 24" لا يمكن اعتماده. الاستهزاء من جونسون شمل أيضا فيليب هاموند وزير المالية الحالي، وهو معروف بتأييده بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، الذي يعد أن جونسون وأصحاب هذا الطرح المروع، لا يفهمون جيدا، وأن عليه أن يدرس ما يقوله قبل أن يطرحه هنا وهناك. فالخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق يعني ببساطة كارثة اقتصادية على بريطانيا، من أكبر علاماتها انكماش الاقتصاد البريطاني نفسه بمعدلات مخيفة قد تصل إلى 7 في المائة، ناهيك طبعا عن تراجع الاستثمارات، وانخفاض قيمة الاسترليني، وتراجع قدرة الحكومة على الإنفاق.
ليس هناك أوضح من ذلك على الجانب الخاص بطبيعة الخروج التي يسعى إليها جونسون. فعدم إبرام اتفاق، يعني أن الأوروبيين سيفرضون تعريفات تلقائيا، مثلما يفعلون مع الدول الأخرى خارج الاتحاد. ومع كل هذه الحقائق، لا يزال بوريس جونسون يحظى بتأييد أكبر من هانت، ولا سيما على ساحة شريحة كبار السن الأكبر عضوية في حزب المحافظين. وهذه الشريحة كانت السبب المباشر لترجيح كفة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016 الشهير. إنها المعضلة البريطانية الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي