نظرية «المنظمة» واستراتيجية الاستخبارات

تنص نظرية "المنظمة" على أن بقاءها أو استدامتها مرهون بالتنظيم الإداري فيها، ومدى ملاءمته لبيئتها والعلاقات من حولها، ولقد أوجدت هذه النظرية أسئلة عديدة جدا، وكان التطوير والتحسين أمرا لا مفر منه في المنظمات، لمقابلة تطورات هذه النظرية، مهما بلغت هذه المنظمات من قوة ومتانة وتجربة.
وهذا الأمر صحيح تماما مع رئاسة الاستخبارات العامة، فمهما كانت التجربة وعمقها، ومهما كانت قوة العمل وخبراته، فإن إعادة ترتيب البيت الداخلي للاستخبارات العامة هي أمر صحي تماما، ويقود إلى مزيد من التطوير والنجاح، ولهذا فإن الأمر الملكي رقم 7422 بتاريخ 10/2/1440هـ، القاضي بتشكيل لجنة وزارية برئاسة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية وعضوية وزير الداخلية، وعدد من الوزراء، لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة، يأتي ضمن هذا الإطار الشامل للنظرية العلمية وتطبيقاتها الحديثة.
ولذلك عند مناقشة ما انتهت إليه اللجنة الوزارية المعنية، يجب أن نضع نصب أعيننا التطورات الرئيسة في نظرية "المنظمة"، التي أصبحت تتطلب التزاما أكبر بقواعد الحوكمة الأساسية مثل المساءلة والشفافية والرقابة، وتتطلب ضبطا للعلاقات الداخلية والخارجية، وهذا ما انتهت إليه اللجنة تماما، وهو ما يتفق مع النظريات الحديثة كما أشرنا. فقد تم استحداث إدارة عامة للاستراتيجية والتطوير، وهذه لا شك في أهميتها من حيث إن العمل الاستراتيجي يحتاج إلى متابعة وإشراف، فالإدارة التنفيذية قد تستغرقها العمليات تماما، ما قد يشتت المسار الاستراتيجي ويجعل للتنفيذ أولوية على الرسالة الرئيسة للاستخبارات العامة، ولهذا فإن مراقبة المسار التنفيذي للتأكد من توافقه مع الرسالة الأساسية الاستراتيجية التي قامت عليها رئاسة الاستخبارات وإن هذه الرسالة في أصلها تتوافق مع تطلعات ولي الأمر، ونظام الحكم، تحتاج بلا شك إلى وجود إدارة للاستراتيجية، ولهذا نص البيان بكل وضوح على أن هدف إدارة الاستراتيجية هو التأكد من توافق العمليات مع استراتيجية الأمن الوطني.
تؤكد نظرية "المنظمة" على أهمية العلاقات سواء داخل المنظمة أو خارجها، وتصبح العلاقات أكثر تعقيدا إذا كانت على مستويات دولية، خاصة في العمل الاستخباراتي، الذي قد تجاوز حدود الوطن إلى عمليات خارجية يتطلبها الأمن الوطني، لكن هذه العمليات يجب أن تراعي العلاقات الخارجية، وإلا تعرضت المنظمة واستدامتها للتهديد، وقد راعت اللجنة هذا بشكل واضح عندما استحدثت إدارة عامة للشؤون القانونية لمراجعة العمليات الاستخبارية، وفقا للقوانين والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، فهذه الإدارة معنية بتقييم العلاقات الدولية ومعنية بتقييم الوضع القانوني للعمليات، بحيث تضمن نجاح العمل الاستخباراتي وفقا لأعلى معايير الانضباط القانوني.
في مجال الحوكمة تأتي إدارة تقييم الأداء والمراجعة الداخلية لتحقيق المساءلة من جانب الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وأن يكون هناك تقييم مستمر للعمليات والتحقق من اتباع الإجراءات ورفع التقارير الدورية عن المخاطر المحتملة لرئيس الاستخبارات العامة، وهذا يمكّن رئيس الاستخبارات من تتبع الاجتهادات الميدانية وتقييم مخاطرها، فالعمل الاستخباراتي لا يخلو من هذه الاجتهادات التي يتطلبها العمل وتقلبات الظروف والتغير السريع في الخطط، لكن يجب ضمان رفع تقارير سريعة للرئيس عن هذه التحولات وعن مدة كفاءة اتخاذ القرار، وأن ذلك تم وفقا للإجراءات المرعية في مثل هذه الظروف، ويجب أن يتم التقييم بطريقة محايدة مستقلة، هنا تأتي الحوكمة بمفاهيمها الحديثة مثل إدارة المخاطر والمراجعة الداخلية وتقييم الأداء لتمنح العمل ثقة أكبر.
من القضايا المهمة في نظرية «المنظمة» ما يتعلق بالموارد البشرية، فالمنظمات لا تحصل على وجودها الحقيقي وتحقق أهدافها الاستراتيجية إلا من خلال موارد بشرية ذات كفاءة عالية، وهنا أيضا تتداخل الحوكمة مع نظرية "المنظمة"، من حيث إن اختيار الكفاءات يجب أن يتم بطريقة تضمن تحقيق الأهداف، وقد راعت اللجنة المكلفة بإعادة هيكلة الاستخبارات العامة هذا، من حيث إنها طالبت بتفعيل لجنة النشاط الاستخباري ووضع آلية لمهامها التي تهدف إلى المراجعة الأولية واختيار الكفاءات المناسبة للمهمات.
ويبقى أن نشير إلى أمر في غاية الأهمية وهو الشفافية التي انتهجتها حكومة المملكة في التعاطي مع موضوع تطوير الاستخبارات العامة، وهو جزء أساس من قواعد الحكومة الاقتصادية، فقد تم الإعلان عن الأمر الملكي بشأن اللجنة الوزارية ووفقا لممارسات سابقة كان من المتوقع أن يتم التطوير دون إعلان عن تفاصيله، لكن لتحقيق مصداقية دولية ضرورية لضبط العلاقات سواء الداخلية أو الخارجية، وتوضيح الأهداف الأساسية للاستخبارات العامة، وهو تحقيق الأمن الوطني، فإن إعلانا بهذا الحجم وبهذه التفاصيل يعد ميزة في ذاته. ومن المتوقع في ظل هذه التعديلات الحديثة التي تتوافق مع أحدث النظريات الإدارية والرقابية فإن العمل الاستخباراتي في المملكة سينتقل إلى مرحلة أكثر تطورا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي