الصيرفة في طريقها للتغيير

كانت السيارات الأولى في الأساس عربات قديمة الطراز تحمل محركات، وقد استغرق الأمر سنوات ليصمم رواد مثل هنري فورد سيارة تناسب المحركات الجديدة ذات الاحتراق الداخلي. وإذا نظرنا إلى الماضي، يبدو أن هذه الآلات البدائية ظلت قائمة بغرابة خلال عصرين، إلا أن هذه الهجائن تعكس فترات التغير التكنولوجي السريع النموذجية، عندما لا يكون من الواضح بشكل كامل ما الذي سيظهر من منتجات أو خدمات.
وتمر الخدمات المالية اليوم بهذه المرحلة الانتقالية. فمن ناحية، أصبح الدفع ببطاقة الائتمان أو سداد فواتير المرافق العامة عبر الإنترنت سريعا وسهلا ومجانيا. (على الرغم من أن الصيرفة عبر الإنترنت في بعض البلدان تعني إرسال صور للشيكات الورقية بالبريد الإلكتروني!). ومن الناحية الأخرى، تظل المعاملات عبر الحدود مكلفة، ومستهلكة للوقت، ومرهقة، إلا أن الرواد الذين يستخدمون التكنولوجيات الجديدة التي تناسب القطاع المالي - التكنولوجيا المالية، للإيجاز - يقدمون وعودا بدفع الصناعة المالية بثبات في العصر الرقمي، كما أحدث رواد مماثلون ثورة في مجال الاتصالات، والإعلام، والتصوير.
ويستفيد المستهلكون — سواء الأشخاص الذين يتسوقون للحصول على قروض لشراء منازل وبوالص تأمين أو شركات تسدد ثمن عوامل الإنتاج الأجنبية — من خدمات أسرع، وأرخص، وأكثر موثوقية. وتدخل شركات جديدة في صناعة الخدمات المالية، في حين تواجه الشركات القائمة ضغوطا تنافسية ترغمها على تبني تكنولوجيات جديدة أو الخروج من السوق. وعلى صناع السياسات التكيف مع القواعد التنظيمية القائمة، أو تصميم قواعد تنظيمية جديدة، في ظل سعيهم إلى دعم الاستقرار المالي ومنع الاحتيال، وغسل الأموال، وتمويل الإرهاب.
ويتمثل التحدي بالنسبة لصناع السياسات في تسخير منافع التكنولوجيا المالية وتقليل المخاطر إلى أدنى حد دون إعاقة الابتكار، وهو ما يدعو إلى التعاون الدولي. وهناك مسائل أخرى تستحق النظر فيها، ولكن لا يتم تناولها في هذا المقال، ومنها تأثير التكنولوجيا المالية في إمكانية الوصول إلى الخدمات المالية في المواقع الفقيرة والنائية، فضلا على تأثيرها في انتقال السياسة النقدية.
وتنطوي التكنولوجيا المالية على طائفة واسعة من الابتكارات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والاستدلال البيولوجي، والتشفير، والحوسبة السحابية، وتكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع، أو سلاسل السجلات — التي تعمل وبالطبع (bitcoin)، بموجبها عملات افتراضية مثل «بيتكوين». كان للتكنولوجيا أثر كبير بالفعل في الخدمات المالية؛ فقد تم تركيب أول جهاز صرف آلي في أواخر ستينيات القرن الماضي، وأصبحت الصيرفة عبر الإنترنت واسعة الانتشار في الأماكن التي تتوافر فيها وصلات الإنترنت عالية السرعة.
ولكن يبدو أن وتيرة التغيير تتسارع الآن. ومن أسباب ذلك هو أن التكنولوجيات نفسها شهدت في الفترة الأخيرة تطورات هائلة. وعلى سبيل المثال، تم توليد 90 في المائة من البيانات المتاحة اليوم خلال العامين الماضيين، وفقا لتقارير شركة آي بي إم. وفي مايو 2017، فاز برنامج (Go) للذكاء الاصطناعي على معلم صيني كبير في لعبة جو القديمة، ما أدهش العدد الكبير من المراقبين الذين اعتقدوا أن النهاية لا تزال تبتعد عقودا عن اليوم.
وربما الأهم هو أن ابتكارات التكنولوجيا المالية يكمل بعضها بعضا؛ فالتقدم في إحداها يعزز فعالية الأخرى ويفسح المجال أمام مزيد من التطبيقات. وعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي وتوافر كميات ضخمة من البيانات إلى أتمتة عملية تقدير الدرجات الائتمانية، ويسمح للمقترضين من المستهلكين والشركات بدفع معدلات فائدة تمثل على نحو أفضل احتمالية سداد القرض في الموعد المحدد. وقد تساعد ما تسمى العقود الذكية، التي تستفيد من تكنولوجيا التشفير والذكاء الاصطناعي، على أتمتة بيع أصول المستثمرين وفقا لأوضاع السوق المحددة مسبقا، التي من شأنها أن تعزز كفاءة السوق.
ويراهن المستثمرون على أن التكنولوجيات الجديدة ستحقق نتائج جيدة. وقد قفز إجمالي الاستثمار العالمي في شركات التكنولوجيا المالية من تسعة مليارات دولار عام 2010 إلى ما يزيد على 25 مليار دولار عام 2016 ، وفقا لتقرير صادر عن شركة KPMG للمحاسبة، وزادت تقديرات السوق لقيم شركات التكنولوجيا المالية المتداولة بأربعة أضعاف في العقد الذي تلا الأزمة المالية العالمية، متجاوزة بذلك الزيادات في قيمة الشركات الأخرى في القطاع المالي. وفي هذه الأثناء، بدأ الجمهور يهتم بها كثيرا، وفقا لما يشير إليه عدد مرات البحث عبر الإنترنت عن الكلمات الرئيسة المتعلقة بالتكنولوجيا المالية.
ولمعرفة كيف يمكن أن تُحدث التكنولوجيا الجديدة تحولا في هذه الصناعة، فكر في سبب وجود الشركات المالية أساسا. فمعظم هذه الشركات — مثل المصارف، ومقدمي خدمات الرسائل بين المصارف، ومعاملات المقاصة والتسوية المصرفية عبر الحدود — من الوسطاء. ويوجد هؤلاء الوسطاء بين الأطراف المقابلة مثل المقترضين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي