الصناعة .. هل من عودة؟
يتفق كل مهتم بالاقتصاد بمركزية الصناعة في إحداث تحول اقتصادي، وكذلك يجمع أغلب المختصين في اقتصاديات التنمية على دور الصناعة في تحديث الاقتصاد خاصة أن نسبة الصناعة من الدخل القومي الإجمالي لا تزال منخفضة مقارنة بكل دول مجموعة العشرين وأغلب الدول التي على مستوى دخل الفرد نفسه من الدول المتوسطة تنمويا. هناك خلل في المنظومة الاقتصادية وفرصة ليست صعبة الاستغلال. هناك حالة خاصة في المملكة تستوجب مراجعة حثيثة وعملا متواصلا لإصلاح الخلل. هناك أيضا تغيير عالمي مهم خاصة أن الصناعة بطبعها وخاصة في الدول الصغيرة والمتوسطة تعتمد على أنماط التجارة العالمية من حيث التصدير والاستيراد من ناحية والتكامل التصنيعي مع الشركات العالمية من ناحية أخرى، فلم يعد منتجا كاملا من شركة واحدة أو اثنتين أو بلدين. التغيير العالمي قد يخدمنا، حيث هناك رجعة لسياسات واستراتيجيات تصنيعية حتى في الدول التي تأخذ باقتصاديات السوق. كذلك هناك فرصة لسياسة حمائية ذكية حيث إن الظرف العالمي تغير. مناقشة موضوع الصناعة لا بد أن يبدأ من معطيات الواقع الوطني والممكن عالميا، طرح غير متكامل سيلاقي صعوبة في القبول نظريا وبالتالي يصعب تنفيذه.
المعطيات الوطنية بدأت منذ الخطة الخمسية الأولى بتأسيس شبكة تجميع الغاز التي جعلت من مدينتي الجبيل وينبع خطوات عملية لتمكين الصناعات البتروكيماوية ممثلة بـ "سابك" وغيرها، استمرت "سابك" في الاستثمارات خاصة تحت إدارة النشط محمد الماضي، وظهرت شركات أخرى بعضها على درجة من الحيوية إلى أن بدأت "أرامكو" في تصنيع البتركيماويات مستغلة صناعات التكرير ـــ تجاوز فني بين ممد اللقيم والصناع الآخرين، ولكن لعله مقبول، حيث الاستثمارات أهم من التفاصيل. كان هناك حديث طويل عن الصناعة ولكنه غير مترابط ولم تظهر وزارة الصناعة باستراتيجية تأخذ بها المملكة على الرغم مما تقدمت به وكالة الوزارة تحت إدارة خالد السليمان ولكنها لم تصل كسياسة واستراتيجية. قبل ذلك كان هناك تطوير لبعض المدن الصناعية بعد ما بدا أنه أزمة أراض صناعية. كذلك كان هناك جدل واسع حول الدعم خاصة أن "سابك" ومثيلاتها استحوذت على كل الدعم ولذلك لم تستطع الحكومة تقديم الدعم للصناعات التحويلية، ولذلك تم بتر سلسلة القيمة المضافة دون تمحيص. وكذلك أعلن برنامج التجمعات الصناعية الوطني الطموح تزامنا مع المدن الاقتصادية ولكن دون إحداث اختراق. ثم جاء رفع رأسمال الصندوق الصناعي منذ سنوات، وتخللت الفترة أيضا مبادرات أخرى مهمة ذات علاقة بعضها قديم مثل برنامج التوازن وأخرى جديدة نسبيا مثل مركز كفاءة الطاقة بجهود مؤثرة من قبل الأمير عبد العزيز بن سلمان، ومن ثم مبادرة المحتوى الوطني. وأخيرا تغير مظلة الصناعة الإدارية إلى أن وصلت اليوم إلى أكبر وزارة اقتصاديا. ما يجمع هذه الجهود هو الرغبة في تطوير الصناعة، ولكن عدم تزامن المراحل وبالتالي ضعف تكاملها بسبب غياب المرجعية الإدارية وبالتالي عدم تأطير السياسة العامة وعدم وضوح الاستراتيجية.
لا يمكن أن تتطور الصناعة في بلد بحجم المملكة، وربما لأي حجم دون البعد الدولي. الصناعة بطبعها تكاملية وسلسلة العرض المتواصلة تدريجية، وكثير من الصناعات المهمة وعالية العوائد الاقتصادية وسطية وغير معروفة لغير المختصين. يعرف الجميع أهمية ألمانيا في الصناعة، ولكن القليل يعرف أن أكثر الصناعات قيمة وتوظيفا من النوع الأخير. الجديد في البعد الدولي توجه محسوس لإعادة الأخذ باستراتيجيات الصناعة حتى في الدول التي تأخذ باقتصاديات السوق. هناك نقاش حيوي في بريطانيا حول استراتيجية جديدة بدأت بورقة "خضراء" في كانون الثاني (يناير) الماضي في ظل تعقيدات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولذلك هناك بحث محموم عن استراتيجية جديدة، وكذلك أبدى ترمب اهتماما كبيرا، ولذلك مراجعة تنتظر إطارا وسياسة عامة جديدة للصناعة. لعل أهم بلد مؤثر صناعيا اليوم الصين التي تأخذ باستراتيجية واضحة وتصاعدية في سلم القيمة المضافة والمحتوى المعرفي، فمثلا تهدف في 2025 أن تصل الشركات الصينية إلى العالمية كمثيلاتها اليابانية والغربية. هناك نواح خدمية عامة تسهل الصناعة، وهناك أنواع من الدعم تختلف حسب المرحلة والمراد تشجيعه، وهناك مجالات واسعة للتعاون مع الشركات الوطنية وتوسيع فرصها رأسيا وأفقيا وسياسة تمويلية دقيقة ودعم انتقائي.
الحالة اليوم تحتاج إلى مراجعة عاجلة على أكثر من مستوى. على الرغم من جهود كبيرة وأموال ضخمة بذلت إلا أننا تأخرنا كثيرا. تحاول المملكة من خلال عدة برامج النهضة بالصناعة مثل برنامج دعم المائة شركة وغيرها، فحجم وزارة الطاقة يمكن أن يخدم إذا استطعنا تقليل معارك القبائل البيروقراطية ولكنه يمكن أن يصير عائقا كبيرا بسبب ضياع الصناعة بين مخالب الطاقة الأهم وقتيا في المملكة وخطر أحادية النمط الفكري. هناك عدة معالم مهمة لرسم استراتيجية منها أن هناك تسرعا في التخصيص قد يتقاطع مع الاستراتيجية، وهناك حاجة إلى قيادة الصناعة، وهناك حاجة إلى الدعم المباشر وغير المباشر، وهناك حاجة إلى التفريق بين تشجيع الصناعة واختيار المستفيد من الدعم، وهناك حاجة إلى التفريق بين سياسة واضحة المعالم وبين اختيار الميزة التنافسية خاصة في المراحل الأولى.