Author

رؤية حول مستقبل البترول

|
تدور من وقت إلى آخر، مناقشات حوارية من خلال المقالات ووسائل التواصل الاجتماعي حول أفضلية مستقبل البترول. هل إنتاجه في وقتنا الحاضر بأكبر كمية ممكنة واستثمار الفائض من قيمته أجدى اقتصاديا على المدى الطويل أم الأفضل الاقتصاد في استنزافه وحفظ ما نستطيع توفيره في مكامنه تحت الأرض؟ الموضوع ليس جديدا، فقد أُشبع دراسة وتحليلا وألف حوله كثيرون عشرات الكتب ودبجت فيه المقالات، كل حسب رؤيته. ونحن لن نخطئ أي طرف، فمن حق كل إنسان أن يعبر عما يظنه صوابا. ولكن من حقنا أيضا أن نبين وجهة نظرنا المبنية على طبيعة ظروفنا الاجتماعية الفريدة والخاصة في دول الخليج بالذات. فهي تختلف اختلافا جوهريا عن معظم دول العالم، من حيث القدرة على الحفاظ على فوائض رؤوس الأموال التي نحصل عليها من أي مصدر كان. وهذه حقيقة كنت أتمنى أن يستوعبها الذين يحاورون في مجال إنتاج البترول، من أجل أن يدركوا أهمية موقفنا عندما نوصي بإنتاج الحد الأدنى من حاجة شعوبنا، وترك الفائض للمستقبل في مكان آمن تحت الأرض. كما نود تأكيد نقطة مهمة يستغل البعض عدم وضوحها أحيانا، فيظنون أننا ندعو إلى إبقاء كامل احتياطي البترول تحت الأرض. وهذا غير منطقي. فدعوتنا هي الاستمرار في إنتاج ما يكفي لمعيشتنا وبرامجنا التنموية، مع ضرورة عدم الإسراف في ذلك. ولدينا شواهد على أن بعض الدول الخليجية فعلا تنتج من هذا المورد الناضب ما يفيض عن حاجتها، سواء رغبة في رفع مستوى الدخل أو استجابة لعوامل الطلب العالمي على البترول، مع وجود من يختلف معنا حول هذه النقطة، بناء على رؤية أخرى، لا نتفق مع مضمونها، تفترض احتمال الاستغناء عن البترول عالميا في المستقبل القريب، لأسباب لا يتسع المجال لسردها. كما نود، وبكل تواضع، أن نذكرهم بأن "فطاحل" شركات البترول العالمية لا يزالون يصرفون المليارات ويبذلون أقصى جهودهم في سبيل البحث عن اكتشافات بترولية جديدة في أي منطقة من العالم. وذلك يشمل أعَالي البحار والمناطق النائية والمتجمدة، ذات التكلفة العالية. ولو كان فعلا هناك ما يشير إلى حدوث ضعف في الطلب على البترول خلال المستقبل القريب لما بذلوا معشار ذلك الجهد ولغنموا توفير جزء كبير من ثروتهم البترولية المحدودة. نعم، هناك دراسات اقتصادية تميل نتائجها إلى أفضلية إنتاج قدر كبير من هذه الثروة الناضبة، ومن ثم استغلال الدخل في استثمار من المتوقع أن يدر ربحا قد يفوق ما سوف يحصلون عليه من بيعه بعد سنوات طويلة. وإن كان ذلك حقيقة في علم الغيب. ولكننا سوف نأخذ بالنتائج الإيجابية ونتقبل الرأي الآخر. ومن المسلم به هو أن هذه الحالة لا تنطبق على الجميع، فهناك دول وأنظمة ومجتمعات تستطيع استثمار الأموال الفائضة بدقة وأمانة متناهية. أما الوضع في منطقة الخليج، فيجب ألا يغيب عن البال أنه دون شك حالة استثنائية. وما عليك إلا الرجوع لسنوات مضت لتجد كيف أضعنا فرصا عديدة في تنمية أموالنا الخاصة والعامة. وقد لا يكون ذلك بسبب الفساد الإداري وحده، الذي لا تزال دولنا تحاربه بشتى الوسائل، بل لنقص في الخبرة وقسط كبير من قصر النظر وإسراف شديد في الصرف المالي. فكيف بنا الوثوق بأن دخل البترول الفائض عن حاجتنا سوف نستطيع تنميته بكل أمانة وإخلاص من أجل مستقبل أفضل لأجيالنا، وقد برهنا سلفا عكس ذلك؟ فما ينطبق على غيرنا قد لا يناسب وضعنا الاجتماعي. ونحن اليوم أمام تجربة فريدة وجديدة على مجتمعنا، قد تكون إن شاء الله فاتحة خير. فمن أهداف "رؤية 2030" المباركة، استثمار ما سوف نحصل عليه من الفوائض المالية الكبيرة تحت إشراف مباشر من ولاة الأمر وبأيد وطنية مخلصة، ولا نزكيهم على الله. وإذا نجحنا في هذا المضمار فسوف تكون لنا فاتحة خير وأملا لمستقبل أفضل. وبصرف النظر عن مستقبل البترول والتنبؤات المتضاربة بشأن استمرار نمو الطلب عليه من عدمه، فمن المناسب لنا ألا ننتج أكثر من الحد الأدنى لمتطلبات حياتنا. وأن نحسب في خططنا ورؤيتنا لأمرين: الأمر الأول، على اعتبار احتمال انخفاض الطلب على المواد الهيدروكربونية خلال السنوات المقبلة، على الرغم من عدم إيماننا بذلك وغياب ما يثبت حتمية حدوثه. والأمر الثاني، الاستغناء التام عن البترول خلال بضعة عقود، أو نفوقه، وتوقف دخلنا نتيجة لذلك. وكلتا الحالتين تمثلان النضوب المبكر المتوقع إذا استمر استخراج البترول بالصفة التي نحن عليها اليوم. فهل، يا ترى، سيكون بإمكاننا خلال هذه الفترة الوجيزة من عمر الزمن أن نصبح حينئذ أمة ذات إنتاجية اقتصادية تغنينا عن السؤال؟ هذا هو التحدي الأكبر الذي سوف نواجهه. فلا أحد يستطيع أن يضمن لنا مستقبلا مطمئنا لأجيالنا. وقد يستغرب كثيرون إذا قلنا إن بعض النظريات الاقتصادية التقليدية قد لا تخدم قضيتنا، ليس لقصور أو عيب فيها، بل لتباين وضعنا واختلافه عن الآخرين. ولا بد من إجراء دراسات لكشف غموض تعلقنا بالإسراف وعدم قدرتنا على التحلي بالوسطية فيما يتعلق بإدارة شؤون أموالنا. وهل الأمر يتعلق بخلفيتنا قبل البترول، ذات الشح الشديد في المعيشة؟ والآن وجدناها فرصة لنعوض معاناتنا في الماضي؟
إنشرها