عنف في كل مكان
قصف، قتل، أغار، أباد، اكتسح، سحق، أهلك، بطش، داس، هاجم، هاجر، دمر، فجر، وغيرها من المرادفات صارت اليوم المحور الذي يدور حوله الخطاب الإعلامي الخاص بتغطية منطقة الشرق الأوسط.
وهنا لا أقصد الخطاب الإعلامي الناطق بالعربية. لو ترجمنا المرادفات أعلاه إلى اللغة الإنجليزية أو أي لغة أخرى في العالم لرأينا أنها ربما أكثر المفردات تداولا في التقارير والأخبار التي تتناول هذه المنطقة.
في دراسة أكاديمية رصينة لخطاب قناة إخبارية عربية شهيرة، توصل الباحث إلى أن الفعل "قتل" ومرادفاته أكثر الأفعال رواجا في العناوين الصحافية والفقرات الرأسية التي تتبعها.
قبل فترة وجيزة، التقيت في أمستردام زميلا لي كان يعمل في قناة عربية إخبارية براتب مجز وحوافز قد تكون جزءا من الخيال لأي صحافي غربي. قال لي إنه يبحث عن عمل بعد أن غادر منصبه في هذه القناة.
قلت له: "لماذا غادرت وأنت تعلم أن الحصول على وظيفة في الصحافة صار اليوم من الصعوبة بمكان".
قال: "لم أعد أتحمل ما أراه من قتل وتدمير. كل الأخبار والتقارير والصور تقريبا تدور حول قاتل ومقتول وكدت أصاب بالجنون".
ربما نسي صاحبي أن يقول إن أغلب القتل والقصف والهدم والسحق والهلاك والدوس والتدمير الذي يجري في هذه المنطقة تافه وعقيم ودون هدف.
القنابل ولا سيما الكبيرة والفتاكة منها صارت اليوم ألعوبة بيد من نتصور أنهم حكماء بيد أنهم أقرب إلى المجانين من العقلاء. كلما زاد ثقلها وقوة انفجارها وتدميرها وضحاياها، زاد صانعوها ومطلقوها زهوا وافتخارا.
وصارت هذه المنطقة حقل تجارب. في سمائها أحدث وأفتك الطائرات من التي يقودها البشر التي يتم تسييرها من بعد، هدفها رمي القنابل والصواريخ على ما يرونه عدوا وإرهابيا.
وعلى الأرض اليوم قلما تجد الناس الذين يصنعون آلة الموت هذه، بيد أن السلاح الفتاك الذي ينتجونه صار في كل مكان. هذا السلاح لا يذهب إلى دولة دون أخرى أو مجموعة دون أخرى. إنه متاح طالما كان أهل هذه المنطقة هم القتلة والقتلى. ينسى مصنعو هذه الأسلحة ومجربوها ومفجروها على رؤوس الناس في هذه المنطقة أن فائدة أي قنبلة تضمحل لا بل تؤدي عكس الغرض الذي صنعت وأطلقت من أجله كلما بعد تفجيرها عن مركز القرار.
وينسى مصنعو هذه الأسلحة ومجربوها ومفجروها على رؤوس الناس في هذه المنطقة أن أي قنبلة تنفجر بعيدا عن كرسي القرار في أرض غير أرضه، أولا ترتد عليه وقد تحرق ثوبه وثانيا من المستحيل أن تحقق غرضها.
مضت 16 عاما على أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية وتعرضت هذه المنطقة بسببها إلى طوفان من القصف والقنابل وأصبحت مرتعا للفوضى والموت.
هل نحن نعيش في عالم مجنون؟ وإلا كيف نفسر سعادة وغبطة بعض المسؤولين الغربيين من رؤساء وزعماء لهذا القصف الذي فاق في شدته ووحشيته ما حدث في الحربين العالميتين؟
يغتبطون لهذا القصف وهذه القنابل والصواريخ والموت والقتل والتدمير الذي فاق كل تصور لأنهم يأخذونه دعامة وسندا في الانتخابات لمسك كراسيهم أو الفوز بها. انظروا مثلا كيف أن استطلاعات الرأي في هذه الدول تظهر أن مكانة أي زعيم وحجم التأييد الشعبي له يزداد بكثافة وثقل القنابل والصواريخ التي يأمر بإطلاقها من حيث أرطال المتفجرات التي تحملها.
وأغلب القنابل والصواريخ الثقيلة هذه يسقطونها أو يطلقونها على دول عربية أو إسلامية لا تشكل مثقال خردل من الخطورة على الغرب لأنها أساسا دول فاشلة تشكل خطرا كبيرا على نفسها وسكانها وأرضها فحسب.
وكل هذه السنين لم يتعلم الغرب الدرس وأساسه أن المستفيد الأول لحملة القصف والقنابل والصواريخ وتصدير السلاح بكميات مهولة حسب "المصلحة الاستراتيجية" هي المجاميع التي يقول إنه يحاربها التي يقول إنها إرهابية. كلما زادت كثافة ووطأة القصف والقنابل والصواريخ وتوريد السلاح، زادت هذه المجاميع قوة ومتانة. وهكذا نرى كيف أن الغرب بالكاد يحتوي، حسب قوله، على مجموعة محددة، حتى تظهر مجموعة أو مجموعات أشد بأسا. وحتى المجموعة التي يقول الغرب إنه احتواها، تعيد تنظيم صفوفها وتظهر من جديد وبقوة وهي أشد بأسا وتنظيما وعددا وعدة.
كم سنة أخرى يحتاج إليها الغرب لكي يفهم هذه المعادلة. 16 عاما والغرب في حرب ضروس في هذه المنطقة لم يربح فيها معركة واحدة ولم يثبت أقدامه على قطعة من أرضها والمجاميع التي تناوئه والتي تعيث في الأرض فسادا تزداد قوة وعدة وعددا.