Author

أهمية توطين التنمية الصناعية والخدمية

|

على الرغم من ضعف برامج التنمية الاقتصادية في بلادنا، إلا أن النشاط الاقتصادي والتجاري بمجمله يتركز في ثلاث أو أربع مدن رئيسة، داخل مسطح مستطيل الشكل يبدأ من جدة وينتهي بالدمام، مارا بمدينة الرياض وعرضه لا يزيد على 100 كيلومتر. وهذا الوضع لا يخدم مصالحنا الاستراتيجية طويلة المدى. بل هو بالأحرى يفتح المجال واسعا لمزيد من هجرة الأيدي العاملة الشابة من المدن الصغيرة والمتوسطة إلى عواصم الأقاليم الثلاثة الكبرى في المملكة، المنطقة الوسطى والمنطقة الغربية والمنطقة الشرقية، ممثلة في الرياض وجدة والدمام. وهذه، دون شك، ظاهرة غير صحية على المديين المتوسط والبعيد، سواء اجتماعيا أو اقتصاديا أو كلاهما. وقد تكون هذه الهجرة المحلية أيضا سببا رئيسا لإحداث خلل في التركيبة السكانية. فالذين تضطرهم الظروف المعيشية للبحث عن عمل بعيدا عن أهلهم وذويهم خارج مقار إقاماتهم ومراتع صباهم هم الشباب الذكور، تاركين وراءهم عددا مماثلا من الفتيات اللاتي لا تسمح لهن التقاليد والعادات والتوجيهات الدينية بالسفر بعيدا عن أهلهن، إلا ربما بعد الزواج.
نحن اليوم بحاجة ملحة إلى تنويع توطين الصناعة والخدمات التي تجلب لجميع مدننا دخلا ولو متواضعا، بدلا من أن تكون عالة في جميع متطلباتها على ما تصرفه الدولة أو القطاع الخاص المحدود من خارجها. أي أنها الآن في معظم الأحوال تأخذ ولا تعطي. وهذا مما يجعل جميع سكان تلك المناطق يعيشون على ما تصرفه الدولة من الرواتب وما يبعثه لهم أبناؤهم الذين يقيمون بعيدا عنهم. هذا على افتراض أنه في الوقت الحاضر لا وجود لمنتجات مصنعة تجلب ربحا صافيا من خارج تلك المناطق، إلا نادرا. وكان من أثر ذلك زيادة هجرة الشباب للبحث عن العمل لعدم وجود أي نشاط كاف يشغلهم ويفي بمتطلبات احتياجاتهم المعيشية، مع استثناء الوظائف الحكومية التي لا تكون إلا نسبة محدودة وغير متنوعة من جملة ما نحن بحاجة إليه. وقد يكون الأمر مقبولا لدى أفراد المجتمع في الوقت الحاضر، مع وجود دخل كبير من البترول. ولكن ماذا سيكون عليه الوضع عندما ينخفض الدخل قسريا بسبب نضوب مصدر دخلنا الرئيس، وهو أمر وارد؟ أنشأت الدولة هياكل مدن صناعية مكلفة في أكثر من منطقة ومدينة ولكننا لم نبن الإنسان الذي سيعمل بين جنباتها، فبقيت أطلالا تذروها الرياح، وأصبحنا كمن قدم العربة على الحصان. ونحن لا نزال نتوسع في المشاريع الصناعية في المدن الثلاث الرئيسة التي تكاد تنفرد بالتسهيلات الإدارية والتنظيمية وتوفر البنية التحتية والمواصلات للمستثمرين. وهذا بدوره يزيد من صعوبة الحياة في المدن والقرى الأقل حظا. ومن حسن الطالع أن وسائل التعليم الأكاديمي والفني والمهني بجميع مراحلها متوافرة في كل منطقة ومدينة ذات كثافة سكانية، وهذا شيء جميل. ولكن ينقصنا هناك الاستثمار المالي، العام والخاص، لإيجاد بيئة صناعية وخدمية تجذب الشباب والشابات وتكون مصدر دخل يحول بينهم وبين الاضطرار إلى الهجرة بحثا عن عمل.
ما المطلوب من أجل تعميم تنمية النشاط الاقتصادي في بلادنا وتوطين الصناعة في جميع مناطق المملكة؟ فالجهود الحالية متركزة في مدن، جدة، الرياض، والدمام. ولذلك علينا تغيير هذه الاستراتيجية لتشمل المدن الأخرى. وهذا يحتاج إلى إيجاد تسهيلات جوهرية نخص بها تلك الأماكن بالذات وتخطيط سليم ومتابعة خاصة، خصوصا في المراحل الأولى من هذا المخطط الحيوي. وذلك بتشجيع المستثمرين من القطاع الخاص وإغرائهم بكل ما يساعد على إنشاء المشاريع الصناعية والخدمية التي تستخدم العمالة الوطنية. ولو اخترنا منطقة القصيم ومنطقة الأحساء، على سبيل المثال، لوجدنا إمكانية إنشاء صناعة متقدمة لمنتجات التمور التي لا حصر لها وتسويقها عالميا، مع حصر العاملين فيها قسريا على المواطنين. ولنتخيل لو أن إنتاجنا من التمور كان في بلد مثل ماليزيا أو تركيا أو كوريا الجنوبية، لشاهدنا منها صناعة مليارية. وصناعة الملابس في ديارنا نادرة، وهي عملية بسيطة قد يكون فيها مجال واسع لاستخدام العنصر النسائي المتحمس للعمل والإنتاج. وما أكثر السيدات في مجتمعنا اللاتي يتكفلن بإعاشة ذويهن. فلماذا لا نعمل قدر المستطاع من أجل مساعدتهن وتهيئة المناخ المناسب لعملهن وكسبهن الشريف؟ ولا نرى بأسا من مشاركة رؤوس أموال أجنبية لزمن محدود من أجل التأسيس وكسب الخبرة الإدارية. ومن ثم تؤول كامل ملكية المنشآت الصناعية والخدمية إلى الشريك الوطني، بموجب عقود ترضي جميع الأطراف.
لا شك أن الموضوع يحتاج إلى دراسات مستفيضة وتقييم عميق ورؤية بعيدة المدى. ويتطلب كذلك، في بادئ الأمر، تنظيمات خاصة وتضحيات جسيمة من قِبَل الجهات المسؤولة في الدولة. فعلى سبيل المثال، ضمان رؤوس أموال استثمار المواطنين لمدة معينة من عمر الاستثمار، خاصة في المناطق التي لا يشملها اليوم النشاط الصناعي والخدمي داخل المستطيل آنف الذكر. وفي كثير من بلدان العالم تحرص الدول على رعاية وتنمية صغار المنتجين ليكونوا طبقة عريضة من القاعدة الاقتصادية. ومن الملاحظ خلال السنوات المتأخرة أن لدينا كثيرا من الشباب الطموح والجاد الذين يبحثون عن فرص استثمارية محلية. وكل ما يحتاجون إليه هو تسهيلات إجرائية، وإذا تطلب الأمر، مساعدتهم على اختيار المجال المناسب لكل منطقة، حسب توافر المواد الأولية إن كان المطلوب يتعلق بأحد فروع الصناعة.

إنشرها