هل «تؤكل الشهادة الجامعية عيشا»؟

قرأت خبرا في إحدى الصحف المصرية قبل مدة يفيد بأن طالبا حرر محضر شكوى في مخفر الشرطة ضد أهله، حتى لا يتعرضوا له، ولا يلوموه لحصوله على معدل منخفض في الثانوية العامة، حيث بلغت نسبته 55 في المائة. وقد استوقفني هذا الخبر لما له من علاقة بالتربية، والطموح، والقبول في مؤسسات التعليم العالي، خاصة الجامعات، وكذا علاقته برسم المستقبل الذي يفترض أنه يهم الفرد، والأسرة على حد سواء، وكذلك المجتمع.
ما من شك أن كل أسرة تتطلع إلى أن ترى أبناءها متفوقين دراسيا، وعمليا، وعلى خلق رفيع، لكن الأمور لا تتم وفق ما يطمح إليه الفرد، ولا ما تتطلع إليه الأسرة في أبنائها، وكما يقول المثل تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. وما استوقفني هو اضطرار الابن إلى أن يقدم شكوى ضد أهله، وما من شك في خطأ التصرف من قبله، لكن لا بد من معرفة الأسباب، أي ما الذي دعاه لذلك؟
في العالم العربي عموما تشكل الثانوية العامة هاجسا يثير القلق لدى الأسرة، وهذا الوضع تنعكس آثاره على الطالب الذي يتعرض لضغوط نفسية هائلة، أثناء دراسته المرحلة الثانوية، نظرا لما يترتب على نسبة الطالب فيها من نتائج تسهم في رسم المستقبل الذي ينتظر الفرد، ولذا تسعى الأسرة بكل ما تستطيع لتحفيز ابنها، ودعمه، وقد يكون الأسلوب في ذلك غير تربوي، إذ تتم المبالغة في الشحن النفسي الذي يشتت التفكير، ويرفع وتيرة التوتر، ويعطي نتائج عكسية، وما فعله الطالب بتقديم الشكوى دليل بارز على صعوبة الوضع، وتأزم العلاقة بين الأسرة، وابنها، وخروجه عن الوضع الطبيعي، إذ يمكن احتواء الأمر، ومعالجته داخل الأسرة، بدلا من تدخل الجهات الرسمية في شأن عائلي صرف.
افتقاد لغة التواصل الجيدة سبب تقدم الابن بالشكوى لخوفه من أسرته التي تعطي أهمية كبيرة لنسبة الثانوية العامة، وهي غير ملامة على ذلك، فالمجتمع من حولها يفعل الشيء ذاته، إضافة إلى ما لها من معنى اجتماعي أمام الأقارب، والجيران، والأصدقاء، وما هذا إلا نموذج بسيط مما يحدث في أي مجتمع من المجتمعات العربية التي تعطي قيمة بالغة لالتحاق ابنها بالجامعة، لما له من قيمة معنوية، ولما يؤمل أن يحقق من إنجاز ينعكس على وضع الأسرة.
كثرة خريجي الثانوية العامة في مصر، بل في الدول العربية كافة قلل من فرص القبول في الجامعات، وزاد من حدة التنافس على المقاعد المتوافرة، كما أن ندرة المجالات الأخرى جعلت من ارتفاع نسبة الثانوية العامة هدفا يتمناه الجميع. لكن هناك عوامل يجهلها البعض، أو يتجاهلونها، وأهمها القدرات التي أودعها الله لدى الأفراد، سواء القدرة العقلية العامة، أو القدرات المتخصصة، التي لها دور أساسي في التحصيل الدراسي، فالبعض قدرته الرياضية عالية، وآخرون قدرتهم اللغوية أفضل، والبعض يتميز بقدرة التحليل، وهكذا، ولذا يكون التفاوت بين الناس "إنا كل شيء خلقناه بقدر".
الجهد الذي يبذل من قبل الطالب في المراجعة، والبحث عن الجديد، خاصة في زمن التقنية المتجددة له أثره في التحصيل، لكن لا ننسى الميول، والرغبات فهي كذلك تسهم بشكل كبير في تفوق، وبروز الفرد في مجال دون آخر، لما يترتب على ذلك من جهود إضافية يبذلها الفرد في المجال الذي يحبه لأنه يجد نفسه فيه.
مع السنين تشكلت لدى الناس قناعات أشبه ما تكون بالثقافة المجتمعية، مفادها أن المستقبل الجيد مرتبط بدخول الجامعة، وهذا ليس على إطلاقه، فالفرص متاحة في مجالات عدة، متى ما هيئت الظروف المناسبة، وتم توجيه الأفراد بالشكل الصحيح لملء الفراغات، فالتجارة، والصناعة، والأعمال الحرفية، والدعاية، والإعلام كلها مجالات خصبة. ففي المملكة على سبيل المثال يمتلئ سوق العمل بملايين الإخوة الوافدين العاملين في المجالات كافة، إلا أن قلة السعوديين فيها تثير الانتباه، وتبعث على التساؤل.
تغيير نظرة المجتمع نحو الجامعة باعتبارها المنطلق الوحيد لرسم المستقبل، إضافة إلى تغيير النظرة السلبية نحو المهن الأخرى خاصة الحرفية يمثلان الخطوة الأساس نحو بناء جيل قادر على تحمل أعباء التنمية في المجالات كافة. ولذا نحن في حاجة إلى استثمار وسائل الإعلام، والتواصل الحديثة لتبصير الناس بالمجالات المتاحة للعمل التي لا تحتاج إلى شهادات عليا، بل إلى همة وبذل الجهد المناسب. ومن يتابع ما يكتب بشأن العاطلين من حملة الشهادات الجامعية يدرك أنه حان الوقت لإعادة التخطيط لتفادي ما قد يترتب على البطالة من أمور لا تحمد عقباها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي