نسميه كذبا ويسميه السياسيون اقتصادا في قول الحقيقة
يُنسب إلى جورج أورويل الصحافي والروائي البريطاني قوله «لغة السياسة تم تصميمها لتجعل الكذب يبدو صادقا والقتل محترما». ويحكى، في السياق نفسه، أن الرئيس ونستون تشرشل مرّ بجانب قبر كُتبت عليه عبارة «هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي الناجح..»، فعلق والدهشة بادية على محياه؛ «إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها رجلين مدفونين في قبر واحد».
يقدم عالم السياسة الأمريكي جون جي ميرشيمر، أحد المفكرين الأكثر واقعية على صعيد السياسة الخارجية، وأكثرهم تأثيرا في العلاقات الدولية، في كتابه الصادر عام 2013 «لماذا يكذب القادة؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية»، المترجم حديثا -ديسمبر 2016- إلى اللغة العربية في سلسلة عالم المعرفة، رحلة فيما هو مسكوت عنه في العلاقات الدولية، أو كما جاء في تقديم الكتاب "رحلة كاشفة لكثير من الأدوات التي أسهمت في تحريك حوادث تاريخية".
يحاول المدير المشارك لبرنامج سياسة الأمن الدولي في جامعة شيكاغو الأمريكية؛ خلال الفصول الثمانية للكتاب، رصد ظاهرة الكذب وتحليلها في إطار العلاقات الدولية بأسلوب رشيق ورصين في آن. فالكتاب موجه إلى عموم الناس غير المختصين، وقابل للهضم والفهم والاستيعاب.
على المستوى الفردي، يشير هذا الأكاديمي النزيه والمثير للجدل؛ بسبب جرأته حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط التي جلبت عليه عاصفة من الانتقادات (أمريكا المختطفة: اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية/ 2007)، إلى انتشار أزيد من 30 نوعا من أنواع الكذب بين الأفراد، حتى إن كان مجمل الثقافات يعتبر الكذب أمرا مكروها، ومرفوضا في العلاقات بينها. ويعكس؛ أو على الأقل هكذا يفترض، انخفاضا في القيم.
وهو ما أكده قديما أبراهام لنكولن أحد أعظم الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة بقوله: «تستطيع أنّ تخدع كل الناس بعض الوقت أو بعض الناس كل وقت، ولكنك لا تستطيع أنّ تخدع كل الناس كل الوقت». وحديثا الكاتب والروائي البرازيلي باولو كويلو «قول الحقيقة وإزعاج الناس أفضل من الكذب لإرضاء الناس».
بيد أن القواعد السابق ذكرها، لا تسري على السياسة الخارجية للدول. فنادرا ما يتعرض القادة والدبلوماسيون للعقاب حين يكذبون، خصوصا عندما يفعلون ذلك تجاه شعوب أخرى. وربما يكون الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة حين يصبح معلوما أن القائد قد كذب على شعبه بخصوص سياسة فاشلة أضرت بالمصلحة الوطنية. ولكن حتى في هذه الحالة، فالغضب الشعبي على القائد، عادة ما يكون بسبب فشل السياسة المتبعة، وليس لأنه كذب عليهم.
لكل ذلك يؤكد ميرشيمر أن ما مضى، بشأن الكذب في العلاقات بين الأفراد، لا ينطبق على السياسة الدولية، فـ"الكذب الدولي" ليس بالضرورة فعلا خاطئا. إذ ينقلب في بعض الأحيان ليكون دليلا عن الفراسة والنباهة، وقد يكون ضروريا، لا بل فاضلا في بعض الظروف.
يؤطر هذا المحلل السياسي الفذ أطروحته حول "الكذب في السياسة الدولية" بأربعة أسئلة كبرى، تتقاطع على مدار فصول كتابه الماتع، وتتركز من ناحية حول ماهية أنواع الأكاذيب الدولية التي يطلقها القادة؟ ومن ناحية أخرى عن العلة وراء الكذب؟ وما المبررات المنطقية الاستراتيجية وراء كل نوع من أنواع الكذب؟ وبالتحديد، ما المنافع المحتملة للكذب التي دفعت القادة إلى الدخول في مثل هذا السلوك المشين؟ ومن ناحية ثالثة عن الظروف التي تجعل من حدوث أي نوع من الكذب أكثر أو أقل احتمالا؟ ومن ناحية رابعة وأخيرة حول التكاليف الكامنة للكذب، وما مدى تأثيرها في السياسة المحلية للدولة، وكذلك سياستها الخارجية؟ بعبارة أخرى، ما الجانب السلبي للكذب الدولي؟
إمعانا في تبسيط الموضوع قدم الرجل تعريفا للكذب لاعتباره نوعا من أنواع الخداع، مع التأكيد على أن كل خداع ليس بالضرورة كذبا. فالخديعة قد تتخذ شكل إخفاء أي كتمان أو شكل التلفيق. ويرى أنهما، وعلى عكس الكذب، ليس مطلوبا من أي منهما قول عبارة كاذبة، أو رواية قصة ليست حقيقية. ولكنهما لا يعنيان كذلك قول الحقيقة.
ويخلص إلى أن الإخفاء والتلفيق هما سلوكان مقبولان بشكل عام، سواء على المستوى المحلي الداخلي أو على مستوى السياسة الدولية. ولكن الكذب مسألة أخرى مخالفة تماما. الكذب غير مقبول في كل مناحي الحياة، إلا في السياسة الدولية، حيث يتم التعامل معه على أنه أمر مؤسف، ولكنه ضروري أحيانا.
يرصد ميرشيمر أصنافا مما يرد في قائمة الأكاذيب الدولية، وهي الكذب بين الدول، إثارة الذعر، التغطيات الاستراتيجية، الأساطير القومية، الأكاذيب الليبرالية.. إلخ، وقد تولى بالشرح والتوضيح والأمثلة التاريخية بعضها حتى تكتمل الصورة لدى القارئ غير المتخصص.
اعتمد الكاتب أدلة وبراهين من التاريخ الحديث لدعم وجهة نظره، وبالخصوص من التجربة السياسية الغربية في القرن العشرين، التي أعاد غربة وقائع وأحداث فيها من أجل إغناء الحجاج الذي يقيمه طوال صفحات كتابه.
أكثر من ذلك لا يتردد في التأكيد مثلا على أن الكذب ديدن الإدارة الأمريكية، حين قوله: «لم يكن مستغربا أن تكذب الشخصيات الرئيسة في الإدارة الأمريكية؛ ومن ضمنها الرئيس بوش، على الأمريكيين في الفترة التي سبقت حرب العراق. وبهذا يكون بوش قد اقتفى أثر الرئيس فرانكلين روزفيلت، الذي كذب بخصوص الحادثة البحرية في عام 1941، سعيا وراء إدخال أمريكيا في الحرب العالمية الثانية، والرئيس ليندون جونسون الذي كذب بخصوص أحداث خليج تونكين في صيف عام 1964 من أجل الحصول على دعم الكونجرس لشن حرب على فيتنام الشمالية».
الكذب في الساحة الدولية الغربية لا يرتبط بالإدارة الأمريكية وحدها حتى إن أمعنت فيه، فهذا فرانكلين روزفيلت يقر بأنه «على استعداد أن يضلل ولا يقول الصدق إذا كان ذلك يساعده في كسب الحرب». وفي أروقة السياسة البريطانية، تتردد مقولة عريقة- تنسب إلى إدموند بورك- على ألسنة الساسة عند اتهامهم بالكذب مضمونها «إننا لا نكذب ولكننا نقتصد في قول الحقيقة». وعن تعريف السفير قال البريطانيون إنه «رجل أمين، أرسل إلى الخارج، ليكذب من أجل مصلحة دولته». وفي الأوساط الأوروبية لطالما كرر الساسة هناك أن «أفضل طريقة للكذب المشروع هي أن تقول نصف الحقيقة».
مما لا شك فيه أن جون جي ميرشيمر بكتابه هذا (لماذا يكذب القادة؟)، يرسم خطا جديدا في إحداثيات حقل بحثي لا تزال معالمه وحدوده غير واضحة للباحثين، بعد تلك المحاولة التي قام بها المؤرخ الأمريكي إيريك ألترمان سنة 2004 في كتابه النوعي "عندما يكذب الرؤساء: تاريخ الخداع الرسمي وعواقبه".