المسار الاقتصادي لرمضان

منذ أسابيع الشوارع مزدحمة بالسيارات، والأسواق مكتظة بالمتسوقين، ليس في مجال واحد، بل في عدة مجالات، أسواق الذهب مملوءة بالنساء، وأسواق الملابس كذلك، أما محال الأواني فلا مكان لك فيها، محال الجزارة يصطف عندها الناس، أما التموينات فأبرز ما يميزها أن المتسوق الواحد معه عربيتان يحاول تحريكهما لثقل الحمولة وبالكاد يفعل ذلك.
عرض البضائع أصبح فنا له أصوله، وله آثاره في التأثير في المتسوقين، وجذبهم، وإغرائهم للشراء، بغض النظر عن الحاجة من عدمها، مصانع، ومعامل الآخرين أبدعت في التصاميم، والألوان، وقذفت بمنتجاتها في أسواقنا، وأخرج التجار ما في المخازن، ما يدفع لمزيد من الشراء، خضوعا ليس لقانون الحاجة الحقيقية، بل خضوعا لقانون الاستهلاك المفرط الذي تشكل في مجتمعنا منذ الطفرة الأولى، حتى لم يعد لدينا القدرة على تقرير متى نشتري، ومتى نمتنع، وماذا نحتاج إليه، وما الذي لا نحتاج إليه، خاصة لمن تتوافر لديه السيولة، وحتى من لا تتوافر لديه يجهد نفسه، إما بقرض، أو سلفة من قريب، أو صديق، ليتحول الدين إلى كابوس يطارده في القادم من الأيام.
ما من شك أن الحركة الاقتصادية في مفهومها الاستهلاكي نشطة لأعلى مستوياتها، ونحن في رمضان، ولذا الحاجة ماسة إلى أن نتأمل في السلوك الجمعي الاستهلاكي، بالصورة المفرطة التي نمارسها على الصعيد الاجتماعي، ونسأل ما مدى قدرتنا على تحويل اقتصاديات رمضان بما في ذلك الزكاة والصدقات، وأعمال البر، ونجعل منها رافدا قويا من روافد التحول الوطني الذي ينتقل بنا من حالة الاعتمادية على الآخرين في منتجاتهم، وإبداعاتهم إلى مجتمع منتج لاحتياجاته، سواء في رمضان،أو طوال أيام السنة، خاصة أن مادة النفط قابلة لتحويلها، أو استخدامها في الكثير من البضائع التي نستوردها من الآخرين الذين نصدر لهم النفط، ليعود لنا بمنتجات مختلفة تكلف الجيوب والاقتصاد الوطني الكثير.
رؤية التحول الوطني الطموحة تتطلب منا تغيير ذواتنا بتغيير طريقة التفكير، فلا نجعل الفقير ينتظر شهر رمضان ليحصل على شيء من الزكاة، والصدقة، بل كيف ننقله إلى حالة اكتساب المهارات التي تجعله منتجا، كاسبا، مساهما في نمو الاقتصاد، ومتطلعا إلى دفع زكاته، وصدقاته فلا يجد من يدفعها إليه، كما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز.
هل نطمع في وزارة الطاقة، والصناعة، والمعادن أن تضع خطة تصنيعية طموحة تأخذ في الاعتبار اقتصاديات رمضان، واقتصاديات العام كاملا، حيث ينخرط للعمل فيها أبناء الوطن لينفعوا أنفسهم، ولا يكونون عالة على الآخرين، ولينتجوا احتياجات الوطن، ويسهموا في الحراك الاقتصادي؟ أعتقد هذا المأمول من الوزارة لتكون في موقف المنافس لوزارة التجارة التي تفتح باب الاستيراد على مصراعيه لتلبية احتياجات الوطن مع عدم توافر الإنتاج الوطني.
عامل مهم وأساس في مثل هذا الموسم وهو كيف نعيد تربية أنفسنا على القناعة، وتوجيه السلوك الاستهلاكي، بما يتفق مع مبادئ الدين، وبما يحفظ الثروات الطائلة التي تصب في ميزانيات الدول الأخرى، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا في محاضن التربية والتعليم، وفي البيوت، حين يجد الأبناء القدوات التي تكسبهم السلوك السليم البعيد عن التبذير، والإسراف المنهي عنه دينا، والمتلف للثروة.
اقتصاد الوطن وثرواته ملك للجميع، والمحافظة عليه تقتضي إسهام الجميع في هذا الهدف، سواء كان مسؤولا، أو فردا عاديا، الدعاية محفز قوي، ومستثير للشهوات، ما يعزز فرصة الاستهلاك الزائد على الحد، بل المبالغ فيه، الذي يصل حد الإسراف. لقد أعجبتني تغريدة يقول فيها صاحبها من يرى النساء وهن يتوافدن على محال الأواني يظن أنهن لا يوجد في بيوتهن شيء من الأواني، أو كأنهن يجهزن لبيت جديد. واقعنا يقول إن الدعاية، وحب التباهي، وعدم إدراك قيمة المال، وعدم التفكير السليم كلها عوامل تسهم في توجيه سلوكنا الاستهلاكي بالصورة المفرطة حتى بلغ الحال وكأننا نتحرك وفق جهاز التحكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي