ماذا سيحدث لو خسر العرب لغتهم؟
الأمم تمر بأزمات كثيرة. والعالم حولنا اليوم في أزمة شديدة وفوضى كبيرة. هناك صراع سياسي واقتصادي وعسكري وغيره.
ونحن قد نكون على دراية بماهية الصراع. الإعلام يشبع الأزمات التي نمر بها نقاشا. والنقاش في الغالب يفتقر إلى الموضوعية والنزاهة لأن كل مؤسسة أو عنصر أو مجموعة أو فرد يرى الأزمة من وجهة نظره. والإعلام تتحكم فيه المؤسسات التي تحاول جهدها مطاوعته لنصرة قضاياها.
بيد أن الأزمات هذه مهما اشتدت يأتي اليوم الذي تنفرج فيه. حروب طاحنة كالحربين العالميتين وغيرهما استطاع الإنسان أن يضع حدا لها ويتجاوزها.
أزمة واحدة إن بدأت لا سبيل لها أن تضع أوزارها. والأزمة هذه قد لا توازيها أي أزمة أخرى في خطورتها. مع ذلك قلما يكترث الناس لها رغم الخسائر الفادحة التي تلحقها بهم.
هذه الأزمة تتعلق بالهوية. والهوية لها تعاريف كثيرة. يربطها البعض بالجغرافيا وآخرون بالدين والمذهب والبعض الآخر ينسبها للتقاليد والعرف الاجتماعي.
شخصيا أرى أن التعاريف هذه، رغم شيوعها، ليس بإمكانها تحديد الهوية مهما سلطنا الضوء عليها.
هوية الشخص هي لغته الوطنية ـــ اللغة الأم.
الجغرافيا قد تتبدل. وتغير المكان والانتقال سهل في عالم اليوم. وفي إمكان المرء التخلي عن دين أو مذهب أو اعتناق دين ومذهب آخر. والتقاليد الاجتماعية والأعراف تتغير وتتبدل.
إضافة إلى ذلك فإن الجغرافيا أو الدين أو المذهب أو التقاليد قد تشكل عائقا أمام الهوية. الانتماء خارج نطاق اللغة ـــ مثلا الدين أو المذهب ــــ قد يجعل من المرء أو المجتمع في صراع مع الهوية ذاتها ـــ اللغة ـــ التي يحملها المنتمي إلى دين أو مذهب آخر مثلا.
وهذا يعني أن الهوية التي تجمع شعبا أو أمة دون تميز هي الهوية اللغوية. ولغة الضاد هي الهوية التي تجمع الناطقين بها رغم جغرافيتهم المختلفة وأديانهم ومذاهبهم المتشعبة وتقاليدهم وأعرافهم المتعددة.
ولغة الضاد هي الوعاء الذي يحوي ذاكرة الهوية برمتها منذ أول نشأتها إلى يومنا هذا.
في لغة الضاد تكمن هوية العربي الناطق بها. وعندما نقول العربي، لا نقصد القومية أو الإثنية. كل ناطق بهذه اللغة ومتشبع بثقافتها وآدابها وفنونها يكتسب الهوية العربية. اللسان هوية الإنسان، واللسان متاح. بمعنى أخر بإمكان المرء أن يكتسب ألسنا عديدة ولكن من الصعوبة بمكان أن يعتنق دينين أو مذهبين في آن واحد.
وربما ليس هناك لغة في الدنيا تعبر عن الهوية مثل لغة الضاد.
هذه اللغة تحمل التراث والثقافة والتاريخ والآداب والأيام والفنون على كتفيها وتسعها كلها رغم ثقلها.
هل يعلم الناطقون بهذه اللغة أنهم ينهلون من ينبوعها الذي لا ينبض في حديثهم اليومي وهم لا يشعرون.
أراقب نفسي عندما أتحدث لغة الضاد ـــ اللغة الفصيحة - وأراقب غيري من الناطقين بها وينتابني الذهول من كثرة ما نتداوله من شعر وأدب ونثر وأحداث حفظتها لنا هذه اللغة منذ العصر الجاهلي حتى يومنا هذا.
وقد لا يعرف الكثير منا أننا نقتبس مرارا وتكرارا من خزينها ونحن نتحدث ونكتب. إما ما نقتبسه من الذكر الحكيم والحديث وعيون الأدب والشعر فهو من الكثرة إلى درجة قد لا نتمكن من إحصائه.
وهناك الكثير مما يمكن قوله حول دور اللغة في إيجاد وتكوين الهوية مما قد لا تسعه صفحات كتاب بأكمله.
ولغة الضاد ربما تبز اللغات الأخرى في دورها المؤثر في إيجاد وتكوين الهوية العربية.
إن محاولة مغادرة لغة الضاد بشكلها ولفظها وأسلوبها الفصيح معناه مغادرة الهوية.
استبدال العربية بلغة أجنبية في المدرسة مثلا معناه استبدال الهوية لأن اللغة الجديدة لها هويتها الخاصة بها.
واستبدال لغة الضاد باللهجات الدارجة في الإعلام أو المدارس أو الكتابة معناه استبدال الهوية العربية بهوية مناطقية ذات جغرافية محدودة.
وهذا بدوره معناه أن الأفق غير المحدود الذي يسع ويجمع العرب والناطقين بلغتهم سيتقوقع وينحصر في وعاء صغير يشمل حدود المنطقة الجغرافية التي تتبنى هذه اللهجة.
ليس هذا فقط، إن استبدال لغة الضاد بلغة أخرى أو لهجة أخرى معناه التنصل من التاريخ والثقافة والآداب والفنون التي هي من أرقي ثمار الحضارة العربية والإسلامية.
ولن يكون باستطاعة الذي استبدل لغة الضاد بلغة جديدة أو لهجة جديدة الاستناد في حديثه وكلامه إلى جواهر وعيون الشعر والأدب العربي ولا الاستناد إلى الذكر الحكيم أو الحديث الشريف كما أتى بلسان عربي فصيح.
هذا غيض من فيض لما يمكن أن يحدث للعرب إن غادروا لغة الضاد.