العرب .. والاقتصاد الخفي

يتفاوت انتشار ما يعرف بـ "الاقتصاد الخفي" بين بلد عربي وآخر، والأمر برمته يعتمد على الأوضاع الاقتصادية العامة في هذا البلد أو ذاك، فضلا عن مستوى العدالة الاجتماعية المتوافرة على الساحة، إلى جانب التنظيم المؤسساتي للأعمال بصرف النظر عن حجمها وقوتها في الحراك الاقتصادي المحلي. والاقتصاد الخفي، ليس اقتصادا خارجا عن القانون كما هو "الاقتصاد الأسود" مثلا، بل "الخفي" هو اقتصاد مكمل لدخل الفرد، وأحيانا مكمل لنواقص في الخدمات التي ينبغي أن تكون متوافرة من قبل الحكومة أو المؤسسات المعنية فيها. الأمر ليس معقدا في هذا المجال. الاقتصاد الخفي هو ببساطة "الحراك التكميلي للمعيشة". وعلى هذا الأساس لا تجد اقتصادا خفيا منتشرا في البلدان الأكثر رشدا.
وإذا أردنا توصيفا أكثر دقة لـ "الاقتصاد الخفي"، فإن أي حراك أو دخل مالي يتم بصورة مشروعة، ولكن لا يسجل ضمن قوائم الحكومات أو الجهات المختصة. وجانب منه هنا يدخل في نطاق التهرب من الضرائب، لكن لأن الغالبية العظمى من الأعمال التي تتم عبر الاقتصاد الخفي، ليست بحجم يسمح لها بأن تكون هدفا للضرائب. خطورة المسألة هنا، تكمن أساسا في أن المنخرطين ضمن الاقتصاد الخفي، لا يتمتعون بأي ضمانات أو تأمينات أو حماية، وبالتالي يتعرض بعضهم إلى النصب والاحتيال وهضم الحقوق. دون أن ننسى إمكانية تعرض العاملين فيه أيضا لمخاطر العمل دون أي تغطية. إنها ببساطة ليست مسجلة، وبالتالي لا معلومات يمكن أن تستند إليها السلطات المختصة لمعالجة المشكلات التي قد تنجم عن هذا الاقتصاد.
في غالبية بلدان العالم العربي، هناك انتشار كبير للاقتصاد الخفي، فالشرائح العاملة في هذا البلد أو ذلك، غالبا لا يكفيها دخلها الآتي من جهات العمل والتوظيف المسجلة، الأمر الذي يدفعها للبحث عن مجالات لرفع مستوى الدخل الشهري، لمواجهة تكاليف المعيشة، خصوصا في البلدان التي تعاني مستويات تضخم مرتفعة بصورة كبيرة، فضلا عن تناقص قيمة عملاتها الوطنية، لأسباب تتعلق بكثير من الأمور، بما في ذلك الفساد وسوء الإدارة والرشا وسرقة المال العام، والتبذير وغير ذلك. في أعقاب الثورات التي شهدتها بعض بلدان العرب، شهد الاقتصاد الخفي ازدهارا كبيرا، خصوصا بعد أن وصلت قيمة عملاتها الوطنية إلى مستويات متدنية بصورة مرعبة. وحتى قبل هذه الثورات، شهدت هذه البلدان وجود شرائح يعمل الفرد منها في ثلاث وظائف أو أعمال مختلفة يوميا.
كأن يكون موظفا وسائق سيارة أجرة، وحارسا ليليا. غير أن صاحب العملين يبقى الأكثر انتشارا، وهؤلاء غالبا يكونون موظفين حكوميين لا تسعفهم رواتبهم الشهرية، فيتجهون إلى "قطاعات" الاقتصاد الخفي، علما بأن التأثيرات السلبية لهذا الاقتصاد تنعكس مباشرة على أصحاب الأعمال الحقيقيين المسجلين، فغير المسجلين مرغوبون لدى الباحث عن خدماتهم لسبب بسيط واحد، وهو أنها أرخص من تلك التي يقدمها المسجلون، وهنا تكمن مشكلة كبيرة، لا يمكن للسلطات المختصة حلها بالفعل، وبالتالي يبقى الاقتصاد الخفي ضمن الدوامة مستمرا بصورة مختلة على كل المستويات. ولا شك في أن البلدان العربية التي يعم فيها هذا النوع من الاقتصاد، تواجه مشكلات اقتصادية كبيرة، لا تسمح لها حتى بمعالجة هذه المسألة.
بالإمكان تنظيم الاقتصاد الخفي، ولكن الأمر يتطلب استقرارا اقتصاديا عند مستويات مقبولة سياسيا وشعبيا. وهذا الاقتصاد إذا ما نُظم يمكن أن يدخل ضمن شرائح الخدمات والشركات الصغيرة. غير أن التوجه لمثل هذا التنظيم، يضيف أعباء جديدة على الحكومات التي تعاني اضطرابات اقتصادية، وبعضها اضطرابات وفوضى اقتصادية وسياسية أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي