هل أنت عميق أم سطحي؟
في زمن الفاقة في المعرفة واليقين، وشيوع اضطراب النفس، وشتات العقل، وطغيان الصغائر، أن تكون عميقا أكثر وقتك، أو بعضا من عمرك، مهمة ليست باليسيرة كما تحسب، وليست سهلة كما يخيل لك! بل هي شاقة جدا، وتحتاج إلى يقظة ورؤية ذاتك من الداخل، والسكون إلى نفسك بتجرد عن كل الصفات والأغيار.
إذا اتصفت بالعمق دائما، وطيلة الوقت فهذا يعني أنك حكيم، «ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا»، في قلة الألم وعمق الرضا، وجميل الصبر.
عصر الشتات، وزمن كثرة التوافه، وسطوة الصورة، والحس، والتلفاز، والهواتف المحمولة، وسيل جارف من صور التهريج، والضحك الفارغ، وتوالي وقائع الموتى المتحركين. بمقدار وجودك فيها، ينتقص من عمقك، ويغرف من ذاتك، ويمج من عقلك.. حتى تبلغ العي ولو كنت من ذي قبل فصيحا، وبليدا وإن ولدتك أمك ذكيا، وغبيا في صورة عالم بكل شيء.
السطحية تأتي كسلوك عقلي في إدراكك ما حولك، والحكم عليه! وبالعودة إلى السؤال الأكثر خطورة.. هل أنت إنسان سطحي؟! ربما تكون كذلك دون أن تعرف، ولعلك أصبت ومنيت بهذا الداء - لا قدره الله عليك - دون أن تشعر بعوارضه، وترى حجم التغير العظيم الذي انسل إليك في كلماتك، وما يهمك، وأكثر ما تمضيه من وقتك.. وهذا ما يجريه علماء النفس مجرى - عادات العقل - التي تحدد طبيعته وتنتهي إلى تكوين قاعه وسطحه، ووعيه ومعارفه.
وحيث إننا جميعا بتنا نصبح على ما نمسي عليه من سيول جارفة لا مستقر لها على فكر، ولا مستودع فيها من معرفة، ولا أثارة من علم، أو بقية تستبقيه فينا من يقظة ضمير، وحضور روح! جعلنا هذا - إلا من رحم - مصابين بقدر متفاوت بداء التسطح والسطحية وزوال العمق، وضعف إشراقات الروح.
يتجلى أبرز مظاهر التسطح، في المتعة بالتوافه، وتحقير الوقت، والوحشة من التفرد مع الذات، وضعف الصبر على الصمت، وإلحاح الرغبة في الكلام، وكثرته، وجريان اللسان والقلم في كل شيء، والجري في كل وادٍ، والنزول مع كل سيل. وعدم الحشمة أمام من هم أعلم منا، وقلة الأدب مع من هم أكبر منا، وغياب منازل الخلق في قلوبنا، والنظر لأنفسنا كعلماء استوفينا مقدمات العلم، وبلغنا منه مبلغ من لا يتورع عن فتوى، ولا يخاف الله في تحليل وتحريم.
بقدر ما يجمعنا العمق على أنفسنا، ويجمع شتات قلوبنا على الله في رحابة الصلة، وجمال ذاك الحس الذي يفوق كل حس، وتلك الغمرة التي تغرق كل الغمرات.. يصيرنا التسطح قساة، وباردين في صلات الغيب، وحياة الروح، لأن الصلة جمع، والسطحية شتات، والعمق بصيرة، والشتات عمى، والعمق إدراك للمسارب والسبيل والغاية.. والسطحية التي جرفتنا وأغرقتنا بصغائرها، وحقير غاياتها، والأغيار تجعلك ترى كل شيء إلا ذاتك، وتتصل بكل أحد إلا ربك، ونفسك.. ويقين قلبك..
لعلك لم تبصر عزوفك عن القراءة، وزهدك في الجلوس بين يدي الله في تبتل القاصد، وتثني الراغب، وقسوة صمتك مع نفسك، وعمرك الذي تهدم ساعات الهدر المتوالي من الكلام في وسائل التواصل الحديثة، وعند منتهى يومك في لحظة سكون النوم.. ارجع لنفسك وقل لها.. هل كنت عميقا في هذا اليوم.. أم جرفك التسطح في قوة السلب وضعف الممانعة؟