الطلب على العمل .. التكيف من خلال آلية الأسعار

تعد قضايا سوق العمل أحد أكبر التحديات التي يواجهها اقتصاد المملكة، لأنها تمس شريحة كبيرة من المواطنين، ولأن التوظف هدف رئيس من أهداف التنمية ووسيلة رئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي. ومنذ بدء الطفرة النفطية الأولى، عانى سوق العمل في المملكة تشوهات اقتصادية نتيجة التغيرات الهيكلية التي حدثت بزيادة الاعتماد على العمالة الأجنبية بشكل كبير للمساهمة في البناء التنموي، وكذلك للتغيرات الديموغرافية التي حدثت في المملكة نتيجة تحسن ظروف المعيشة، ما أدى فيما بعد إلى تزايد مطرد في معدلات البطالة بين المواطنين في ظل وجود أكثر من عشرة ملايين وافد يعملون في المملكة. فهناك وظائف يوجدها الاقتصاد بشكل مطرد نتيجة التوسع الكبير في التنمية الاقتصادية التي محركها الرئيس الإنفاق الحكومي، لكنها لا تذهب إلى المواطن بل تذهب إلى الأجنبي، ما يطرح تساؤلات حول نموذج النمو الاقتصادي الذي تنتهجه المملكة حاليا وما إذا كان يمكن أن يحقق الاستدامة على المدى المتوسط والطويل.
وهذا الوضع الذي يعانيه سوق العمل في المملكة هو وضع فريد بسبب حدوث نقلة كبيرة في وقت قصير قلما تحدث في الاقتصادات الأخرى -خلال فترة السبعينيات الميلادية- في مستوى الدخل الوطني، ما أحدث فراغا عماليا كبيرا أدى إلى الاعتماد على العمالة الأجنبية بشكل كبير. في المقابل، فإن الوضع الطبيعي في الدول هو تحقيق زيادة متدرجة في الدخل الوطني تؤدي إلى تغير متدرج في هيكل سوق العمل لا يؤدي إلى التشوهات التي يعانيها سوق العمل في المملكة. فزيادة الدخل الوطني تنتج عادة عن ارتفاع النمو الاقتصادي الذي يرتبط بزيادة في الطلب العام، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع عام في الأجور. وبالطبع فإن الاختلاف في الأجور النسبية بين القطاعات الاقتصادية المختلفة سيكون مرتبطا بالإنتاجية في هذه القطاعات، فالقطاع الأكثر إنتاجية سيكون أكثر ربحية وبالتالي فإن الطلب على العمل فيه سيؤدي إلى ارتفاع أكبر في الأجور في هذا القطاع نسبة إلى القطاعات الأخرى الأقل إنتاجية.
لذلك، فإن آلية الأسعار تتحكم بشكل كبير في تحديد حجم الطلب على العمل سواء في القطاعين الخاص أو العام، وتسهم في توجيه العمل إلى القطاعات الأكثر إنتاجية في الاقتصاد التي تسهم في تحقيق نمو اقتصاد أكثر وبالتالي زيادة في التوظف العام. وكذلك تسهم آلية الأسعار في تحديد مزيج المدخلات الأمثل الذي يحقق العائد الإنتاجي الأكبر، ومن ثم فإذا ارتفعت الأجور –سواء في القطاعين العام أو الخاص– فإن أصحاب عمل القطاعات الإنتاجية المختلفة سيلجأون إلى المفاضلة بين تكلفة العمل أو تكلفة الاستثمار الرأسمالي (الآلات والمعدات)– ومن ثم سيحددون ما إذا كانوا سيعتمدون بشكل أكبر على الاستثمار الرأسمالي لزيادة إنتاجيتها بالنظر إلى ارتفاع الأجور أم على عنصر العمل نظرا لانخفاض تكلفته نسبة إلى تكلفة الاستثمار الرأسمالي. وبالتالي فإن آلية الأسعار تعد محددا رئيسا لتوجيه الموارد –العمل ورأس المال– إلى الاستخدامات الصحيحة التي تعكس التكلفة التي تقدرها آلية العرض والطلب.
في المملكة تغيب آلية الأسعار بالنسبة للأجور بشكل كبير، فالأجور في القطاع الخاص محكومة بمستوى الأجور في الدول المصدرة للعمالة، وهذا بسبب أن لدينا عرضا (لا نهائي) من عنصر العمل الأجنبي بشكل لا يوجد له مثيل في العالم. وهذا يسهم بدوره في تعطيل آلية الأسعار وصعوبة اكتشاف القطاعات الأكثر إنتاجية التي يمكن أن تسهم في إيجاد قيمة مضافة أكثر للاقتصاد وتوفر مزيدا من الوظائف للمواطنين. كذلك يؤدي ذلك إلى تفضيل دائم لأصحاب العمل للاعتماد على عنصر العمل الرخيص بدلا من الاستثمار في رأس المال الذي يؤدي إلى تحسين نوعية العمل ويزيد الطاقة الإنتاجية ويحسن نوعية المنتج. أضف إلى ذلك، أنه بينما يسهم العرض من العمالة الأجنبية في الدول الأخرى في تغطية العجز من الخبرات المتميزة والتعامل مع التغيرات الديموغرافية خصوصا الشيخوخة على المدى الطويل، فإنها –العمالة الأجنبية- في المملكة تلعب الدور الرئيس في سوق العمال في القطاع الخاص، وبالتالي فإن الأجور في القطاع الخاص هي انعكاس لآلية العرض والطلب عليها.
وعليه، فنتيجة للعرض المرن من العمالة الأجنبية فإن أجور العمالة الأجنبية تبقى عند مستويات منخفضة في مقابل ارتفاع تكلفة الاستثمار الرأسمالي (الآلات والمعدات) بسبب محدودية العرض منه، ما يؤدي إلى اعتماد متزايد في القطاع الخاص على عنصر العمل على حساب الاستثمار الرأسمالي في الآلات والمعدات والتقنيات الحديثة التي تسهم في تحسين نوعية وظروف العمل وكفاءته. وهذا يؤدي إلى التأثير السلبي على هيكل الاقتصاد من عدة جوانب. الأول: تركيز الثروة في يد مالكي رأس المال الذين يستثمرونه في عنصر العمل (المعتمد على العنصر الأجنبي) وبالتالي يحقق لهم عائدا ريعيا -وليس ربحيا- أكثر. ثانيا: ضغط الأجور حيث لا تكون مناسبة لعمل المواطن في القطاع الخاص وبالتالي بقاء العامل الأجنبي مسيطرا على السوق. ثالثا: أصبحت نوعية الوظائف في القطاع الخاص تتطلب في أغلبها عمالة غير ماهرة على حساب الاستثمار الرأسمالي الذي يمكن أن يسهم في تحسين نوعية الوظائف وزيادة إنتاجيتها. رابعا: استنزاف كبير جدا لميزان المدفوعات بسبب التحويلات الكبيرة للعمالة الأجنبية التي لا تعيد تدوير هذه التحويلات في استهلاك يسهم في توفير مزيد من التوظيف والفرص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي