الحوكمة الاقتصادية .. واستقلال مجلس المنافسة

لقد أصبح في حكم العلم المستقر أنه لا يمكن لأي مؤسسة اليوم أن تحقق أهدفها إذا لم تكن لديها حوكمة تتناسب مع تلك الأهداف ومع أصحاب المصالح المرتبطين بتلك المؤسسة، فالأبحاث حول الكرة الأرضية انصبت باهتمام حول تأثير الحوكمة الجيدة على الأداء، وتم جمع أدلة علمية لا تدحض بسهولة حول تلك العلاقة بين قواعد الحوكمة الجيدة والأداء الجيد، ولقد كان مفهوم الاستقلال وكيفية تحقيقه عند أولئك المسؤولين عن الحوكمة في المؤسسات المختلفة من أهم قواعد الحوكمة، بل يعد أحد أقطابها الرئيسة ونعني بذلك استقلالهم الظاهري والوظيفي عن الإدارة التنفيذية، واستقلالهم الذهني عند تقييم الأداء وتقييم التقارير الرقابية، وأي تحيز هنا حتى لأي طرف سيوجد مشكلة يصعب تداركها، ولقد انهارت مؤسسات دولية كبرى ما كان أحد يظن أنها ستترك حتى تنهار لكن لحجم الكارثة فلم يكن أحد باستطاعته أن ينقذها من مصيرها المحتوم، ولعل بنك برذرزليمان يقدم موعظة لا يمكن تجاوزها، وفي مقام الدول والحكومات قدمت اليونان بالذات تجربة مرعبة لما يمكن أن يتسبب به التساهل في الحوكمة حتى مع الوزارات والأحزاب والحكومات وهو الأمر الذي جعل مجموعة الدول الأوروبية تطالب بتطبيق معايير عالية في الحوكمة الاقتصادية، وذلك مفهوم صعب جدا ومتقدم في الحوكمة لكنه يرتكز على الأصول نفسها والأقطاب الرئيسة لقواعد الحوكمة، وأهمها استقلال المسؤولين عن الحوكمة في كل مؤسسة عند إدارتها التنفيذية.
اليوم تقف المملكة على عتبة تحول اقتصادي جذري، وما يجري اليوم على ساحتنا الاقتصادية سيكون له ما بعده مما سيحدث في المستقبل القريب، وإذا كنا نتجه إلى الخصخصة بقوة، وهو المخرج الرئيس من خانقة النفط والاعتماد على مورد اقتصادي واحد، فإن التحول بلا قواعد ضابطة لحوكمة اقتصادية سيقود هذا المشروع كله إلى طريق غير ما خطط له، وإذا كانت الخصخصة تعني أساسا تحرير الأسواق فإن منتهاها هو التخلص تماما من تأثير الذراع الحكومي على المؤسسات والاقتصاد، وتحول شامل، حيث يصبح القطاع الخاص هو المحرك الأساسي للتنمية لدينا، فإن هذا المشروع يتطلب إنهاء وزارات بكاملها والتحول إلى بناء هيئات رقابية وإشرافية تتمتع باستقلال شامل كما تتمتع بمجالس إدارة محترفة وممثلة بشكل واضح لأصحاب المصالح، هذه الهيئات الإشرافية المستقلة تماما هي مطلب مهم جدا في نماذج الحوكمة الاقتصادية التي يطالب بها العالم، ولكن تحقيق هذا النوع من الهيئات يتطلب تحريرا كاملا لها من هيمنة التمثيل لأي طرف وأن تمارس دورها باستقلالية صريحة.
يشير تعريف الحوكمة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي إلى نظام من المؤسسات والإجراءات المعمول بها بغية تحقيق أهداف الاتحاد في المجال الاقتصادي، ويجب تطبيق قواعد متقدمة في الدول الأعضاء لمراقبة السياسات المالية والاقتصادية الكلية على حد سواء، وإعداد إطار متين لإدارة الأزمات المالية، "انتهى". وهذا التعريف يشير بوضوح إلى أن الحوكمة الاقتصادية الرشيدة تعني إخضاع السياسات المالية والاقتصادية الكلية لمراقبة وإشراف مؤسسات اقتصادية مستقلة، وهنا بيت القصيد. فإذا كنا نريد التحول إلى نموذج اقتصادي جديد يرتكز على القطاع الخاص ونحن ننطلق إلى هذا التوجه باستخدام خصخصة المؤسسات الحكومية كرافعة اقتصادية، فإننا بحاجة ماسة أيضا إلى اتباع نماذج متقدمة في الرقابة والإشراف، وأن نبدأ من حيث انتهى الآخرون بدلا من إعادة تجربة الأزمات والتعلم بالخطأ. ولهذا - وكنتيجة - فإننا في حاجة إلى عادة هيكلة المؤسسات الإشرافية على الاقتصاد لتكون مستقلة تماما حتى عن الوزارات التي تمارس صناعة السياسة الاقتصادية الكلية.
وكمثال سأقدم نموذج مجلس المنافسة الذي صدر قرار مجلس الشورى قبل شهرين بتحويل مجلس المنافسة إلى هيئة عامة، ترتبط برئيس مجلس الوزراء مباشرة، وهذا هو المسار الصحيح لمجلس بهذا الحجم وهذه الأهمية، فهذا المجلس يعتبر من أهم المؤسسات الرقابية والإشرافية في الأسواق الحرة، وهو يمثل ركيزة من ركائز الحوكمة الاقتصادية الرشيدة، وبناء هذه المؤسسة لتكون مستقلة تماما عن وزارة التجارة "وهو المؤسسة الحكومية التي تصنع السياسات الاقتصادية الكلية في مجالها" وربطه برئاسة مجلس الوزراء مباشرة سيحقق للمجلس الإشراف على سياسات وزارة التجارة وغيرها من الوزارات التي تمس المنافسة في الأسواق وسيعمل المجلس من خلال استقلاله إلى تقييم هذه السياسات وتأثيراتها على مستويات المنافسة، لكن أن يظل تحت إشراف وزارة التجارة - كرئيس للمجلس - ولم يرتبط مباشرة بمجلس الوزراء فإن قدرة مجلس المنافسة على الحكم الرشيد على السياسات الحكومية للمنافسة سيكون محل شك حتى من قبل الهيئات الدولية. فالحوكمة الاقتصادية الرشيدة تؤيد تماما ما ذهب إليه مجلس الشورى وتحقيق هذا الاستقلال سيكون له أثر بعيد المدى على مصداقية الاقتصاد السعودي وشفافيته.
وحتى بعيد عن الحوكمة الاقتصادية الرشيدة، فإن استقلال مجلس المنافسة عن وزارة التجارة بهذا الشكل، سيختصر الكثير من العبارات والتقارير حول توجه المملكة نحو بناء اقتصاد تنافسي يحقق العدالة، فالمجلس المستقل حتى عن صانعي السياسات الاقتصادية سيمنح مصداقية عالية جدا عن توجه الاقتصاد السعودي نحو المنافسة وحماية الأسواق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي