أسقطنا الأب
هذا حديث عسير المعنى لمن تعجل فهمه.. وأساء الظن بمضمونه، إلا أنه من الفرائض الواجبة الذكر، والواجبة التقرير والتعليم.. ففي غمرة حديث (... ثم أباك) بعد ثالث توصية بحق الأم.. أسقطنا الأب من حس العاطفة، وتدفقها، ومن عظيم الجلال، وعظيم التقدير الذي لم يفارقه كتاب الله دائما.. فمفردة القرآن (وبالوالدين إحسانا) هنا وحدة جامعة للأب وللأم معا، هنا تقدير واحد بلا تفاوت، وهنا تعظيم ثابت مستقر بلا تفاضل.. كلاهما ولي نعمة بقدر، وكلاهما حمال لطف، وصبر بقدر مقدور، وعطاء متفرد بتكامل المهام، واختلاف الوظائف..
أسقطنا الأب.. كأنه ليس معيلا في نصب.. وحافر الأرض وحارثها في كبد.. وجامع حطب الدفء، ونبات الأرض في تلافيح الشمس، وقسوتها.. لا يستقيم عود أخضر من أبنائه إلا بيباس أطرافه، وانحناء عوده، ولين صلابته..! أسقطنا الأب.. رغم أنه هو الساقي.. من عصارة عمره، وهو الباني بما ينهدم كل يوم من عافيته، وهو الساعي يحمل ضعفه ويغالبه، ويحمل حزنه ويواريه، ويستر في جزء من الليل أوجاعه، ويستكتمها أنينه، ومهانة نهاره، وخيبات الرجاء في قلبه.. لا يبلغ هذا الأب باب بيته إلا وهو مكدود التعب.. مغلوب النصب.. وعلى شفتيه يا رحيم أرحمني ومن أعيل.. ويندفع الحب الغامر.. والحضور التام.
لا أعرف سبب اختزال الأب، ولا سبب تضييق مكانته، ولا سبب طي جلاله وتقديره وتصغير عطاياه، وعظيم تضحياته..! كان للأمومة يوم فيه يتدفق الشكر وحس الامتنان للأم.. وتجاهلنا الأب كأننا لسنا مدينين له بفضل، ولا نحمل له حق الشكر، ولا حق الاعتراف بالجميل..!
جعلنا الأب معيلا كآلة حرث الأرض، كفرن الخبز، كحطب الليل إذ نثر برده، في كلها وبتمامها، هو آلة بلا شعور يترقب، وبلا حس يبصر، وبلا إدراك يحيط، كأنه حمال متاع غيره، لغير داره، بلا أجرة، ولا عاطفة غميرة الصدق..!
ربينا أطفالنا على أن تكون الأم هي أول حرف في قلبه.. وهي الحرف الأخير منه، ربينا أطفالنا على أن الأب يأتي في نهاية التقدير.. في نهاية الحب.. في بقية ما يتبقى من حبه لأمه.. يلملم ما يمكن جمعه من بقاياه لأبيه.. الأب فضلة مشاعر.. الأب هنا بقية من فتات مائدة طويلة.. من الأحاديث.. والشعر.. والقصص.. كلها تمجد الأم وحدها، وتعظم شأن الأم وحدها، وتجعل لها وحدها الجنة ونعيمها..!
حولنا من حيث ندري أو لا ندري الأب إلى عقرب يستحق القتل بعد تمام الحبل واستيقان بوادره، تجففه العقرب بعد قتله، ليكون أول ما يضرس عليه نسله، حين يتفتق البيض فيأكلونه لحما تيبس على ملح الانتظار الطويل..!
لا بد من العودة إلى توازن الشعور، لا بد من إنصاف حامل النصب، الكاد نهاره في تعب من تعب، لا بد من قليل من الوفاء، وكثير من العودة إلى وحدة الموضوع، ووحدة الحقوق، ووحدة الحب والشعور (وبالوالدين إحسانا) وليس لأحدهما دون الآخر.. لا بد من رحمته على مخابئ نفسه.. وطواياه الخيرة القصد الطاهرة السعي البتول في الحب حتى يتم عليه أجله.. وهو كحجر الرحى.. ثقيل على نفسه.. كريم بالدقيق وأطايب الخبز.