دور خبراء تخطيط المدن
تعاني المدن الرئيسة في المملكة في هذه الأيام من مشكلات كبيرة في التنظيم العام وفي البنى التحتية وفي قضايا البيئة المختلفة.
وتعود أسباب المشكلات إلى أن المدن السعودية الكبيرة لم تأخذ بمنهجية علم تخطيط المدن الذي يهتم ببناء المدن على أسس اقتصادية واجتماعية وسياسية وتنظيمية واسعة المدى.
لقد شهدت العمارة في مدن بلادنا تنوعا كبيرا يستمد عناصره ـــ على مر العصور ـــ من البيئة مرورا ببيت الطين والحجر، وحتى أنماط العمارة الحديثة، ولكن حتى لا تترهل المدن السعودية الكبيرة وتصبح حبلى بالمشكلات المقلقة لسكانها وزوارها، فإنها تحتاج إلى إعادة تخطيط لمواجهة الظروف الجديدة التي تمر بها.
العمارة هي الموسيقى الصامتة، أو الجمال الصامت، ويزداد الجمال كلما استمدت هذه العمارة شكلها وعناصرها من البيئة، لأنها تعبير حي عن حضارة وثقافة مكونات المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيها حيث إن المدينة تحمل جزءا من بصماته وثقافته وحضارته.
ومعروف بداهة أن من أهم مكونات المدينة هي المساكن، حيث يتوجب عند تخطيط المدن أن تراعى في المساكن الجوانب التي يحتاج إليها الإنسان، كما يتوجب على مخطط المدينة أن يجعل المساكن على شكل أحياء ومجموعات في مناطق محددة من المدينة، إضافة إلى المساكن هناك أماكن العمل، ويجب أن يراعى فيها طبيعة السكان والجوانب التي تريحهم وألا تكون مزعجة لهم وتكون محققة لظروف الأعمال كل حسب اختصاصه. والعنصر الثالث المهم هو عنصر المرور، فشبكة المرور والطرق في المدينة تعطي انطباعا عن مدى نجاح المدينة أو فشلها، إذ يجب أن تراعى عناصر مختلفة عند تصميم شبكات الطرق في المدن، منها اتساعها للسيارات، وأن تكون البنية التحتية منظمة، بحيث تقلل قدر الإمكان من حدوث الاختناقات المرورية، كما يجب أن تكون شبكات الطرق آمنة للسائقين وللمشاة، كذلك يجب أن تيسر سبل الوصول إلى دور العبادة وأماكن الترفيه والمستشفيات والمدارس والجامعات وغيرها حتى يكون الوصول إلى هذه الأماكن ميسورا وبعيدا عن التعقيدات المرورية التي أصبحت من أخطر المشكلات التي يعاني منها سكان مدننا الكبيرة، فالحديث عن أزمة المرور في جدة والرياض والدمام ومكة المكرمة حدث ولا حرج!
إن مشكلات المدن الكبيرة ليست منحصرة في المدن السعودية، بل المدن في العالم كله تشكو من المشكلات نفسها التي تعاني منها المدن السعودية، ولذلك تنظم الدول الكبرى مؤتمرات للمدن، ويعقد في برلين بألمانيا في العام المقبل واحد من أهم المؤتمرات التي تناقش قضايا التخطيط العمراني في المدن الكبرى في العالم ويسعى المؤتمر إلى وضع الحلول لهذه المشكلات حتى تتحول المدن إلى مدن ذكية ترحب بسكانها ولا تكدر حياتهم، وتكون جاذبة لهم وليست طاردة.
ومشكلات المدن المركبة في كل أنحاء العالم تتماثل وتتقارب فالكل يشكو من التكدس البشري ويشكو من تعاظم تلوث الماء والهواء، بل تسممها بسبب غازات عوادم السيارات والمصانع ونفايات البشر والضوضاء والتسول، والكل يعاني زحمة وأزمة المرور، بل الكل يشكو من فوضى مواقع الخدمات، مواقع المؤسسات الحكومية الجماهيرية ومواقع المستشفيات والمدارس والجامعات.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإننا في مدننا الكبيرة لم نهتم بالطرق الخاصة بالدراجات وبطرق ذوي الاحتياجات الخاصة التي أصبحت من أهم العناصر التي تهتم بها المدن المركبة في الدول المتقدمة.
ويحاول المخططون في الدول المتقدمة توقع الاتجاهات المستقبلية التي قد تحدث في المجتمع، كمعدلات الزيادة أو النقص في عدد السكان، والتراجعات الكبيرة في النشاط الصناعي.
ويسعى المخططون إلى جعل الحياة في المجتمعات الحضرية، أكثر راحة ومتعة. ويفصلون بين المناطق السكنية والمناطق الصناعية، كما أنها توفر وسائط النقل التي تمكن الناس من الذهاب إلى الأسواق، والمكاتب، والمصانع والعودة منها بسهولة وسرعة، وتوفر أيضا ما يكفي من الأماكن الترويحية، والمدارس، وخدمات التسوق.
وفي هذه الأيام تطرح إمارة مكة المكرمة قضية إعادة تخطيط مدينة جدة في مقدمة أولوياتها بهدف البحث عن حلول لمشكلات هذه المدينة الغالية.
والخلاصة لا توجد مدن ذكية وعصرية من دون تخطيط عمراني وحضري، ولذلك إذا كانت مدينة جدة قد أخذت المبادرة وطرحت مستقبلها بين يدي خبراء تخطيط المدن، فإنني أهيب بكل المدن السعودية الكبيرة أن تعيد حساباتها وتمنح خبراء تخطيط المدن فرصة التخطيط العمراني والحضري.